محمد حماسة عبد اللطيف

محمد حماسة عبد اللطيف

محمد حماسة عبد اللطيف

وتأصيل النقد اللغوي للشعر

بقلم الدكتور/ أحمد درويش

أهتزت الأوساط الأدبية والأكاديمية في مصر والعالم العربي، منذ  نحو إسبوعين وفي آخر يوم من أيام العام المنصرم 2015 بالرحيل المفاجىء للأستاذ الجامعي وعالم اللغة، الشاعر الناقد الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف عن عمر يناهز الرابعة والسبعين. بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس من خلال موقعه نائباً لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأستاذاً بكلية دار العلوم جامعة  القاهرة، وشاعراً رصيناً أمتد نشر نتاجه الشعري منذ عام 1970 في ديوان “ثلاثة الحان مصرية” الذي شاركته فيه، كما شاركته في الديوان التالي له سنة 1975 “نافذة في جدار الصمت” مروراً بدواوينه المستقلة “حوار مع النيل” سنة 2000، و”سنابل العمر” سنة 2005، ووصولاً إلى إنتشاره الشعري الواسع على شبكات التواصل الإجتماعي في السنوات الأخيرة، عبر كّم هائل من “الإبجرامات” الشعرية كان يتبادلها مع أصدقائة وتلاميذه ومريديه وقرائه وهم يعدون بالالاف ولا يكاد يخلو يوم من واحدة من هذه “الإبجرامات”الشعرية التي تصدر عنه، أو يرد بها على من أستثاره، وكلها تدخل في إطار الإلتزام بشعر البحر والقافية مع تطويع رائع يناسب المواقف المثارة وتقاليد العربية المعاصر، وثقافة شبكة المعلومات.

وقد تجاوب في هذا المجال مع كثير من الشعراء منهم أصدقاؤه وزملاؤه المناظرون من أمثال الدكتور سعد مصلوح والدكتور سعيد شوارب وكاتب هذه السطور، ومنهم من ينتمون إلى أجيال لاحقه، وتتفاوت مواقعهم على درجات سلم الإبداع الشعري. ولكنه لم يكن يغفل الرد على أية محاولات صحيحة تخاطبه شعرياً، وكان أحياناً يلفت النظر في رفق إلى بعض ما ينبغي تقويمه.

ولم يكن في إطار هذه “المطارحات” يبيت على ثأر أبداً، وربما آتته رسالة شعرية خلال عمله، فيكون رده عليها خلال عودته إلى بيته، ينشغل سائقه بالطريق، وينشغل هو بهاتفه وأشعاره المدونة عليه، فلا ينقضي يومه، حتى يكون قد أنقضى ما عليه من “دين” وقد مررت بتجربة  مطارحات مكثفة معه في الصيف قبل الفائت حين كنا نصطاف في وقت واحد، في قريتين متباعدتين بمنطقة “الساحل الشمالي” الممتدة بين الإسكندرية، ومرسى مطروح، وكنت أفضل أن أصحو مبكراً أتريض على شاطىء البحر المتوسط قبيل طلوع الشمس فتحضرني أبيات يثيرها الموقف الهادي المحيط، فأرسلها له على هاتفه، وكان هو ينام متأخراً، بعد صلاة الفجر وحين يصحو مع الظهر يجدها، فيكون أول ما يفعله أن يرد عليها من بحرها وقافيتها، ونترقب اليوم التالي لجولة أخرى، وحين أحس – رحمه الله – بأن مقطوعته تأتي تالية، ولم يكن يتقبل هذا بسهولة في معظم مواقفه، بادر إلى عكس قواعد اللعبة، فأخذ يبادرني هو بالكتابة بعد منتصف الليل، فأصحو في الصباح لأجد الرسالة، ويكون علىّ أنا أن أرد على البحر والقافية التي أختارها، وهذا الحصاد الذي جاء مواكباً لتطور تقنيات الكتابة الإلكترونية. جدير بأن يجمع على يد أحد الباحثين من تلاميذ الدكتور حماسة ويوضع موضع الدرس والتحليل لبيان مدى الطواعية التي يتميز بها الشعر العربي (التقليدي) وهو يستجيب للمتغيرات الخارجية، فيما يحافظ على هيكلة الرئيسي ويتسامح في المتغيرات على مستوى المفردة والصورة والخيال وحجم الموضوع، وطريقة بناء الجملة الشعرية فيها.

وهذه الطاقة الشعرية الكبيرة كانت معرضة للإهتزاز وربما الإختفاء، عندما أصطدمت بالمهام الأكاديمية التي تعرض لها محمد حماسة عندما عين معيداً بقسم النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم، عقب تخرجه فيها سنة 1967 ، وهي نفس الدفعة التي تخرجت فيها، وقد حدث هذا الإهتزاز لكثير من الشعراء الأكاديمين من قبلنا الذي كان لهم صوت شعري عال ومميز ولكن ظلمت موهبتهم أمام المتطلبات الأكاديمية ومن أشهرهم في الجامعات المصرية الدكتور عبد القادر القط والدكتور عز الدين إسماعيل مع الإستمرار النسبي لقطرات من موهبتهما الشعرية. وهناك كثيرون غيرهم في كل الجامعات العربية، ضحوا بالموهبة الشعرية أمام المتطلبات الأكاديمية، لكن الشاعر الدكتور حماسة عبد اللطيف كان ممن نجحوا في أن يجذب أعباءه الأكاديمية إلى مجال نفوذ طاقته الشعرية دون ان يخل بأدنى المتطلبات العلمية والوظيفية، فجاءت معظم دراساته المتخصصة حول “الشعر” انطلاقاً من رسالته التي أعدها لرسالة الماجيستير في أوائل سبعينات القرن الماضي حول الضرورات الشعرية، والتي أستمرت بعد أن أصدرها في كتاب سنة 1979، ثم اصدر كتابه “النحو والدلاله .. مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي” سنة 1983، وهو يتحرك في المجال الشعري غالباً ثم أصدر كتابه “الجملة في الشعر العربي” سنة 1968، وكتاب “ظواهر نصية في الشعر الحر، نماذج من صلاح عبد الصبور سنة 1990 وكتاب “اللغة وبناء الشعر” سنة 1992، وكتاب “البناء العروضي للقصيدة العربية” سنة 2000 وكتاب “الإبداع الموازي التحليل النصي للشعر” سنة 2001.

وهذه الأعمال القيمة في مجملها لم تقتصر على الجانب التنظيري وحده، كما يحدث في كثير من الدراسات الأكاديمية حول الشعر، ولكنه أمتدت إلى الجانب التطبيقى، مع نماذج من الشعر العربي القديم والجديد على سواء تمتد من إمرىء القيس والنابغة وطرفة بن العبد والأعشي والمتنبي لتصل إلى قصائد صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب، وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة وغيرهم من الشعراء القدماء والمعاصرين.

وكانت مجالات تحليلة تنطلق دائماً من النص وخصائصه اللغوية لتقف أمام الإسناد ودرجات الملاءمة فيه، والمجاز وطرائق تعبيره والصفات ووظائفها البنيوية والجمالية وخصائص الجملة الشعرية مقارنة بالجملة النثرية،  إستقلال المعنى وتداخله ودور الموسيقى الشعرية في بناء المعنى الشعري دون الإقتصار على الزينة الخارجية ودور القافية في بناء المعنى الشعري، وغيرها من القضايا اللغوية  والنحوية التي ينطلق بها من واقع النص إلى آفاق البناء الشعري التي لا تحد، ويصل من خلال هذا المنهج إلى أضعاف ما تصل إليه المناهج النهويمية في نقد الشعر – إن كانت تصل إلى شىء – ويساعد في بناء جماليات النص الفعلية إنطلاقاً من نص محدد أمامه يساعد على تذوقه وتذوق الفن الشعرى معه.

لقد أرتكز حماسة في بناء منهجه الفعال على تراث “النحو الجمالي” عند العرب، وهو شديد الثراء في كتابات بعض القدماء مثل عبد القادر الجرجاني، وأبن جني، كما أعتمد على النظرية اللغوية الحديثة في نقد الشعرالتي كان حريصاً على النفاذ إلى أسرارها،عبر القراءة الدقيقة لما يترجم من مؤلفاتها فضلاً عن محاولته الدؤوبة للوصول إلى مفاتيح نصوصها في لغاتها الأصلية، واذكر أنه عندما اطلع – رحمه الله- على موسوعة بناء الشعر واللغة العليا التي ترجمتها عن الفرنسية للناقد جون كوين ابتداء من سنة 1984، أبدى إعجاباً كبيراً بأفكار مؤلفها وبعض الرضا عن لغة مترجمها، ولم يكن رضاه – رحمه الله- ميسوراً في جميع الأحوال إنطلاقة من كثرة علمه وشدة طموحه. جزاه الله خيراً عما قدم للشعر العربي من جهود هائلة، شاعراً ودارساً وناقداً.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*