محمود السعدني ظريف يكتب عن الظرفاء

محمود السعدني ظريف يكتب عن الظرفاء

محمود السعدني ظريف يكتب عن الظرفاء

(الظرف) ظاهرة إنسانية وموهبة يتمتع بها بعض الناس دون غيرهم وبل قد تكون أكثر شيوعاً في بعض الأجناس والأعراق وقد تساعد الظروف على ظهورها بدرجة أو بأخرى أو إتساع مداها تحت تأثير بعض الملابسات الإجتماعية أو الإقتصادية أوالسياسية أو التاريخية.

والظرف مثل (خفة الدم) من الصعب أن يجد له الإنسان تعريفاً محدداً ضيقاً أو صورة واحدة يتحقق فيها بل إنه مثل (الجمال ذاته) قد يسهل القول بوجوده إنطباعياً ويصعب القول بتعريفه وتحديده منطقياً كما كان يقول إبن الرومي في واحدة من جميلاته

يسهل القول إنها أحسن الأشياء               تراً ويعصب التحديد

وربما كان الإقتراب من التعرف على هذه الظواهر أقرب منالاً من خلال البحث عن مقابالاتها أو نقائدها ففي مقابل خفة الدم قد نحس بثقل الدم عند أخرين وفي مقابل الظرف قد يحس الأنسان بالتظرف عند من يحاولون الإنتساب الى الظاهرة دون أن تكون ليدهم مواهب أو مؤهلات تتيح لهم ذلك وهو لا شك سيكون أكثر إحساساً (بالسماجة او الجلافة أوالبلادة أو الغلاسة) التي قد تقف في زوايا متعددة في مقابل الظرف مع أنها تبدو ذاتها بحاجة الى التعريف والتحديد.

وليس الظرف على كل حال موهبة أدبية بالضرورة  بل قد لايكون موهبة كلامية بالضرورة فبعض الظرفاء تبدو مواهبهم في تصرفاتهم وأفعالهم وحركاتهم وإيمائاتهم التي تثير التسلية أو الإستحسان أو الضحك في نفوس من يشهدها والتي قد يصعب ترجمتها الى كلام لإثارة نفس المشاعر عند من لم يشاهدها وحتى عندما يتجسد الظرف في مشهد كلامي مثل النكتة أو القفشة أو التعليق فإنه ليس من السهل نقلها وإحداث نفس التأثير بها على لسان كل من استمعوا اليها وإنما ينبغي أن يتمتع الناقل بقدر من الظرف يتيح له إحداث التأثير الذي تصحبه بالضرورة درجات معينة من التلوين الصوتي والإيماءات وصنع المفارقات والمفاجأت حتى لا تصبح النكتة (بايخه) عند من يصدم في ظرف كان يتأهب لإستقباله ولا تقتصر صعوبة مهمة ناقل الظرف في التنبيه الى أهمية غير الكلامية المصاحبة للنص الظريف وإنما تمتد الى الموقف من هذا النص ذاته ودرجة المحافظة عليه أو تحريفه أو تصحيحه من وجهة نظر الراوي، وقديماً تنبه الجاحظ وهو من شيوخ الظرفاء وشيوخ مؤرخي الظرف في الوقت ذاته الى الخطأ الذي يقع فيه من ينقلون ملح الأعرابي وأصحاب المجون عندما يصححون لحنها كما يرون فتكون النتيجة أن تأتي خالية من اللحن ومن الظرف معاً كما تنبه أبو نواس الى أن بؤرة الظرف في قصة الصبي الألثغ الذي ينطق السين ثاء عندما يحكي ابو نواس عبارته كما هي دون ان يصححها فيقول على لسانه في شعره :(ويل للناث من الناث)

ليس نقل الظرف إذن ولا الكتابة عنه أمراً سهلاً ولا هو هو متاح لكل الناس مالم يكن ناقل الظرف نفسه ظريفاً وتلك هي واحدة من الصعاب التي تواجه كاتباً مثل الأستاذ محمود السعدني الذي أخذ على عاتقه أن يكتب عن مجموعة من أشهر ظرفاء مصر في القرن العشرين من أمثال عبدالله النديم وحافظ ابراهيم وعبد العزيز البشري وإمام العبد وعبد الحميد الديب وإبراهيم ناجي وحفني محمود وحسين شفيق المصري ومحمد البابلي ومحجوب ثابت ومجدي فهمي وبيرم التونسي وكامل الشناوي وهي مجموعة كما يتضح من الوهلة الأولى لا يضمهم نمط واحد من الظرف وإنما تضمهم أنماط فعلية وكلامية ونثرية وشعرية وموجزه ومتصلة ولكل نمط منها أساليبه وخصوصياته فكيف واجهها محمود السعدني.

لقد حاول السعدني أن يعالج الشخصيات التي تناولها معالجة خفيفة ربما إستجابة للسياق التي كتبت فيه فقد كتبت في شكل مقالات متفرقة توجه عادة الى المثقف العام وليس الى المثقف المتخصص ولكنه عندما أعاد جمعها لكي تصدر في (كتاب اليوم) الذي يصدر عن مؤسسة أخبار اليوم فكر في ان يضع الظاهرة في سياقها العام ليس من خلال المقدمة التي تركها لكامل الشناوي وهو أحد الظرفاء الذين كتب عنهم ولكن من خلال قائمة موجزة أعطاها عنوانا ظريفاً هو (ليس بعد الضحك ذنب) في تقليد واضح لمثل مشهور يضع مكان (الضحك) كلمة (الكفر) وفي هذه القائمة أشار الى خصوبة التربة المصرية في إنتاج الظرفاء في كل العصور وأشار منهم الى سيبويه المصري الذي كان يعيش في عصر كافور الإخشيدي وعكر مزاج المتنبي وهو يسخر منه وكان هذا في رأي السعدني أحد أسباب هجاء المتنبي لمصر، وقفز سريعاً فوق العصور التالية دون أن يتوقف أمام كثير من شعراء العصر المملوكي والتركي الذين كانوا يتخذون من الظرف والسخرية سلاحاً لمواجهة تعسف حكامهم وجلاديهم، وقد توقف في القرن التاسع عشر أمام عبدالله النديم وشخصيته وما خلفه من تراث أدبي وصحفي وأشار الى ظاهرة عامة تتصل بالتطور الذي حدث في مجال عالم الظرفاء في أوائل القرن العشرين بمصر عندما لم يعد هذا العالم مقتصراً على الصعاليك والبائسين وحدهم ولكنه شهد دخول عدد من الوجهاء الى مجاله لعل من أبرزهم الدكتور محجوب ثابت صديق أمير الشعراء أحمد شوقي والذي كان صديقاً أيضاً لمعظم الوزراء والزعماء بل كان من أكثر المنتظرين لمنصب الوزارة الذي إمتنع عليه، وقد كتب فيه شوقي مداعباته الشهيرة التي كان يرضى محجوب عن بعضها ويهدد شوقي بالمقاطعة الأدبية عند سماع بعدها الآخر كما حدث عندما كتب شوقي عن البراغيث التي تملأ عيادة الدكتور محجوب وتنتظر زائريها منذ بداية الطريق:

براغيث مـــحجوب لــم أنسها

ولم أنسى ما شربت من دمي

تشك خراطـــــيمهـــا جوربي

وتنفذ في اللحم والأعظم

وننظرها حول بيــت الرئيس

وفي شاربيه وحول الفم

بواكــــير تطلع قـبــل الشتاء

فتحمل الوية الموسم

قـــد أنتشرت جــــوقة جوقة

كما رشت الأرض بالسمسم

ترحب بالضيف عند الطريق

فباب العيادة فالسلم

 

والظرف هنا بالطبع لا يتوقع على محجوب وإنما ينصرف الى شوقي الذي مثلت علاقة الشعر عنده وعند رفيقه حافظ إبراهيم بالظرف ، موقفاً لافتا حول مفارقات العلاقة بين ظرف السلوك وظرف الشعر عند كليهما بل إن الأمر قد يمتد الى شاعر أخر مثل ابراهيم ناجي فقد كان حافظ أكثر ظرفاً في سلوكه وأقل ظرفاً في شعره بينما كان شوقي على العكس من ذلك فقد يكون اقل ظرفاً في سلوكه ولكنه أغزر ظرفاً في شعره، بل إن الأمر قد يمتد الى شاعر أخر مثل ابراهيم ناجي كان أحد الذين وقف أمامهم محمود السعدني مركزاً على المواقف الظريفة التي تنسبه اليه أو تروى عنه دون أن يشير الى أي نموذج عنده للشعر الظريف.

أما ظاهرة الشعر (الحلمنتيشي) التي تعتمد على مزج الشعر الفصيح بالفاظ حديثة أو عامية وعلى إثارة روح المفارقة بين استحياء روح نموذج مبالغ في القدم والجدية ومزجه بنموذج أخر مبالغ في الحداثة والهزل فقد أشار السعدني الى واحد من أبطال هذه الظاهرة البارزين ومن القلائل الذين سجلوا ما كتبوه في هذا المجال على حين يهمل معظم الشعراء في الفترة التي يشير اليها السعدني وحتى في عصرنا الحاضر تسجيل نماذجهم التي تنتمي الى هذه الظاهرة.

هنالك كثير من نماذج الشعر الحلمنتيشي الجيد ومن شعراء هذا الإتجاه الذين وقف أمامهم السعدني الشاعر حسين شفيق المصري الذي عارض المعلقات السبع المشهوره في الشعر الجاهلي بما أسماه بالمشعلقات السبع ومن أشهرها معارضته لمعلقة طرفها ابن العبد:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

بمعلقته التي جعل مطلعها:

لزينب داكان بحارة منجد

تلوح بها أقفاص عيش مقدد

أما الشعر المكشوف الذي أشتهر به واحد من كبار الشعراء الصعاليك في العصر الحديث وهو عبد الحميد الديب، فإن أي دارس سيجد نفسه مضطراً الى عدم رواية أجود ما فيه من الناحية الفنية لأنه يمتزج بألفاظ مشكوفه قد يتعود الناس في روايات شعر الظرف الشفوية على سماعها ولكن كثيراً من الأذواق تنفر من قراءتها أو على الأقل تتظاهر بذلك وقد وقف السعدني على الحافة وهو يروي أجزءا من قصيدة رائية لعبد الحميد الديب يتناقلها الظرفاء حتى الآن ويعرفون ما فيه من الفاظ الحرج التي يضعون مكانها نقاطاً إذا أضطروا للأستشهاد ببعضها وقد رأى السعدني من مطلعها:

وهام بي الأسى والبؤس حتى

كأني عبلة والبؤس عنتر

كــــــــأني حائط كتبوا عليه

هــــنا يا أيها المزنوق طرطر

وهو أقسى ما يمكن أن تسمح به تقاليد لغة الكتابة في وسائل النشر العامة.

أما عبد العزيز البشري فقد دعاه السعدني بحق سيد الظرفاء وإن كانت تنطبق عليه قضية المسافة الفارقة بين ظرف الموقف والتعليق السريع باللغة العامية وتتراجع الظاهرة قليلاً عندما تصب الكتابة في قوالب اللغة الفصحى ولكنه هنا أقرب الى حافظ منه الى شوقي، ولقد كان على اية حال قريبا ً من حافظ يتبادل معه القفشات اللاذعة فإذا قال له حافظ ذات مرة وقد وقف ينتظره في الطريق حتى وصل اليه لقد ضعف بصري حين رأيتك من بعيد، ظننتك امرأة، أجاب عبد العزيز البشري بسرعة وعلى البديهة وأنا أيضاً قد ضعف بصري وحين رأيتك من بعيد ظننتك رجلاً.

لكن البشري عندما يكتب ويرسم صور أو بورتريه يبدوا شديد التأثر بملامح هذا الفن عند الجاحظ والذي ينظر الى وصفه لزيور باشا بأنه كان إذا ركب العربة لم يستطع أحد أن يعرف هل هو جالس الى الشمال أم هو جالس الى اليمين؟ وأنه كان يمشي في حديقة داره فتراهن إثنان من المارة هل هو يسيرأمامهما  أم هو متجه اليهما؟ هذا الكلام شديد التأثر بما كتبه الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير في وصف أحمد بن عبد الوهاب وهو مالم يقف أمامه السعدني.

لقد كتب السعدني عن الظرفاء بإسلوب ظريف وقدم الظاهرة تقديماً محبباً للمثقف العام لكي يتسلى بها وللمثقف الخاص لعله يعيد النظر في بعض جوانبها التي تستحق مزيداً من الدرس والتحليل.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*