محمود العشيري

محمود العشيري

محمود العشيري يعيد تصنيف الشعر العربي

من الغنائية إلى السردية

بقلم الدكتور أحمد درويش

في محاولة جادة لا ينقصها الطموح ولا إتخاذ الخطوات المنهجية المناسبة، يطرح الدكتور محمود العشّيري في كتابه الهام الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بعنوان “الشعر سرداً.. دراسة في نص المفضليات” يطرح قضية هامة وطموحة، وهي أن يعيد تصنيف الشعر العربي القديم من مظلة “الغنائية” التي لحقت به عند معظم النقاد المحدثين، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن، وأمتدت منه إلى معظم فترات الشعر العربي بما في ذلك الشعر الحديث والمعاصر، بإستثناء شرائح قليلة من الشعر المسرحي منذ شوقي أو من بعض المطولات التي حلا للبعض أن يطلق عليها “شعراً ملحمياً” سواء تم ذلك في الأداب الرسمية أو الشعبية، وبإستثناء ذلك يظل الشعر العربي في مجملة “شعراً غنائياً” وليست هذه على أية حال، صفة نقص أو تقليل ولكنها صفة تصنيف وتبويب، وجاء محمود العشيري في كتابه الذي صدر مؤخراً، ليطلق هذه المحاولة في إعادة التصنيف والتبويب للصفة الغالبة من الغنائية إلى السردية، وهو لا يريد بالتأكيد نفي صفة الغنائية عن ذلك الشعر وإنما يريد أن يقنعنا بوجود صفة أخرى في الشعر الجاهلي، والذي أختار منه أشهر نماذجه عبر إختبارات المفضل الضبيّ لروائع الشعر الجاهلي من قصائد ومختارات، في كتابه المفضليات الذي يعد أقدم وأشمل كتاب في بابه والذي تولى تحقيقه وشرحه في العصر الحديث محققون أجلاء من شريحة أحمد شاكر وعبد السلام هارون، وفخر الدين قباوة، وقد أعتمد الباحث على جهودهم وافاد منها.

والفرض الذي يطرحه يأخذ معظم عناصر الإجتهاد الصحيح من طرح الفكرة وتقليبها. والرجوع إلى المصادر الموثقة ومناقشتها، والرجوع إلى كثير من المراجع النقدية الحديثة خاصة في فروع علوم السرديات، وهي متنوعة ومتشعبة ومثرثرة أحياناً، وبعض ما فيها دون شك يساعد على اضاءة طرقات الباحث في دروب التراث العربي، ولكن بعض ما يرد في هذه الكتب النقدية الحديثة – وهو ليس بالقليل- قد يشكل عنصر إرباك لكل من المؤلف والقارىء على سواء وأعتقد أن الدكتور العشيري قد نجح – جزئياً – في مقاومة إغراء ثرثرة هذه المراجع سواء في لغاتها الأصلية أو ترجماتها التي لا تخلو من صعوبات، ولكن بعضاً منها التف من وراء ظهره، ودلف إلى صفحات الكتاب فكان يعكر في قليل من الأحيان لحظات الصفو والتواصل الحميم مع النص الجاهلي العذب الرائق.

وقصة إطلاق صفة “الغنائية” على مجمل الشعر العربي ، تعود في جذورها إلى التقسيم الذي أطلقه أرسطو في كتابه الشعر على أنواع الشعر اليوناني، السابق عليه والمعاصر له، فقد قسمه إلى شعر مسرحي وملحمي وغنائي وظل هذا التقسيم مسيطراً على معظم أداب العالم حتى الآن، وعرف فيه الشعر الغنائي لدى نقادنا العرب المعاصرين بأنه الشعر الذي يحمل صفة الغنائية وهي صفة تطلق على ذلك الشعر الذي ينظم بقصد التغني به، على أوتار القيثارة القديمة، التي يلتقي اسمها Lyre وتلتقي مع صفة الغنائية Lyrisme في اللغات الأوربية.

وطور النقاد الغربيون هذا التفريق بين الغنائي والمحلمي والدرامي وتشعبوا به في تنوع الأساليب وعلاقة النص بكاتبه أو المكتوب عنه أو نمط التفكير والمشاعر السائدة فيه ومن خلال هذا التشعب جائت تصنيفات ناقد مثل تودروف التي تجمع ملامح النقاد المختلفين، فجعل الشعر الغنائي، هو الذي يتحدث المؤلف فيه وحده ويأخذ شكل الإنفعال المتعالي ويسود فيه ضمير “أنا” أو “نحن” وينشغل بالزمن الحاضر، في حين أن الشعر الملحمي تأخذ فيه الشخصيات حق الكلام مع المؤلف ويتخذ الشكل الذي يحكي بوضوح، ويسود فيه ضمير الغائب هو أو هم ويتخذ “الماضي” زمنا ً له، أما الشعر الدرامي فهو الذي تتحدث فيه الشخصيات وحدها ويسود فيه الشكل المنشغل بالذاتي، ويغلب عليه ضمير المخاطب أنت ويكون الزمن السائد فيه هو زمن المستقبل.

لكن محمود العشيري يرى أنه إذا جاز أن يطبق هذا الفصل الصارم بين الأنواع أو الأجناس الأدبية في أدب متنوع الأنماط مثل الأدب اليوناني، والأداب الحديثة، بما فيها إلى حد ما، الأدب العربي الحديث، فإن الأمرقد يختلف بالنسبة للشعر الجاهلي ، الذي لم يكن نوعاً من الأدب، تقف إلى جانبه أنواع أخرى، وإنما كان “نوع الأنواع” أي كان الأدب كله، ومن ثم ساغ له أن تتداخل فيه سمات الأنواع الأخرى “التي نشأت أو كان أن تنشأ  ويصبح – على حد تعبير المؤلف – مرادفاً ضمنياً للأدب منطوياً على قيم سردية أو غنائية ودرامية ورسائلية وحجاجية، وينفتح على التهديد والمواعظ والمنافرات والمفاخرات والمدح والرثاء، والغزل والتأمل.. وغير ذلك، ليصبح الشعر في النهاية أكبر من أن تستأثر بتصنيفه مقولة نوعية واحدة.

وإنطلاقاً من هذا يلتمس العشيري ملائح السردية في الشعر الجاهلي من حيث كونه سرداً للحياة والتاريخ وحامل رسائل متبادلة بين أطراف التلقي، ثم ينظر إليه سردياً من حيث علاقته بالأسطورة سواء  في ذلك تلك الأساطير السائدة أو التي يصنعها الشعراء ويرسمون بها صوراً نمطية بصرف النظر عن الواقع مثل أسطورة الثور الوحشي والحمار الوحشي الذين لا نجدهما على هذا النحو إلا في الشعر.

ويتناول الكتاب عبر ذلك تقنيات السرد الحديثة، ويحاول تطبيقها على نصوص الشعر الجاهلي فيسلم له الأمر في كثير من الأحايين ويفلت منه في أحيان أخرى، لكن تبقى المحاولة في مجملها إجتهاداً ناجحاً يستحق عليه صاحبه الأجر الأول بالتأكيد للمجتهد، وينافس على كثير من أسهم الأجر الثاني، فالمجتهد له أجر أو أجران ولعله ينالهما معاً.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*