محمود حسن اسماعيل
رحلة الإلهام الشعري إرسالا وإستقبالاً
3/3
بقلم الدكتور أحمد درويش
يعتبر الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل (1910 – 1977) واحداً من المع رواد حركة تجديد الشعر العربي في القرن العشرين منذ أن صدر ديوانه الأول (أغاني الكوخ) سنة 1935 وهو ما يزال طالباً في كلية دار العلوم أوائل ثلاثينات القرن الماضي، إلى أن ودع الحياة على شاطىء الخليج العربي، بالكويت في أواخر السبعينات، وقد صدر له خلال هذه الرحلة كثير من الدواوين الشعرية التي اثرت رحلة الشعر العربي المعاصر، أمثال دوادين: “هكذا أغني” 1937، و”الملك” 1946 و”أين المفر” 1947، و”نار وأصفاد” 1959، و”قاب قوسين” 1964، و”لابد” 1966، و”التائهون” 1967، و”صلاة ورفض” 1970، و”هدير البرزخ”1972، و”نهر الحقيقة” 1972، و”موسيقى من السر” 1978، و”صوت من الله” 1980 بعد رحيله. فضلاً عن اثرائه لمذاق الأغنية العربية، بروائعه التي غناها محمد عبد الوهاب وغيره من كبار المطربين والمطربات، مثل “النهر الخالد” و”دعاء الشرق” وغيرها.
و من بين الجوانب المتعددة في التميز الشعري لمحمود حسن إسماعيل، عنايته بأن يكون شعره أحياناً حول “الشعر نفسه” أي أن تعكس العين أضواءها على ما يدور بداخلها إضافة إلى رصدها ما يقع في دائرة طاقتها الشعرية ليتجسد في شعره نموذج هلامي شفاف لرحلة الإلهام بجانبيها إرسالاً وإستقبالا.
وقد كانت عنايته في رحلة “الإرسال” بتوظيف “الالات الموسيقية” الشعبية مثل “الرباب” و”الناي” ليخترق بها ومعها ومن خلالها دواخل النفوس الغامضة. وطيات المجهول المستعصية على الرصد والتصوير، وكان الشاعر بمصطلحات الطب الحديث، يوظف “الأشعة” بدرجاتها المتختلفة والوانها المتعددة، ليرى في طيات النفوس، مايراه الطبيب المعالج في طيات البدن. وخفايا الأنسجة.
يقول في ديوانه، “هكذا أغني”:
دعوني أغني
فإن الغناء طريقي
إلى كل سر بعيد
خلقت لأرتاد روح الحياة
وأستل أعماقها للوجود
ومهما سرى قبلي السائرون
فإني على كل درب جديد
ويقول في توظيف “الرباب” و”الناي” للأختراق والإصغاء والرصد والتصوير داخل النفس البشرية.
ربابي على النفس نفسً تطل
وتصغى وتعزف هم النفوس
ففي كل صدر لنايي دروب
والفاف تيه لديها تجوس
تفجر أمواجها الموثقات
وتعصر اسرارها في الكؤوس
مجنحة من صحارى الغيوب
بما يجهل الريح أقصى مداه
فلا في الفضاء ولا في الخفاء
لها شاطىء تحتويها رؤاه
و”الرباب” و”الناي” اللذان اصطفاهما محمود حسن اسماعيل أداتي للنفاذ والإختراق والرصد والتصوير والقيام بعمل “الأشعة” الشعرية هما آلتان موسيقيتان شائعتان في الريف المصري، ويتألقان في سكون الليل على نحو خاص فيرتبط بهما الحنين وانثيال الذكريات. وقد حاصراه من الناحية العملية في مرحلة شبابه الأولى التي قضاها في “كوخ ريفي بسيط” منعزل ناء في مزارع قرية “النخيلة” من أعمال أسيوط في صعيد مصر، وهي المرحلة التي أنتج فيها ديوانه المنفرد “أغاني الكوخ” لكنهما أصطحباه في بقية رحلته وتحولا من ادوات الحنين والتأمل إلى وظيفة “المسبار الشعري” الذي يوظفه في إختراق المجهول:
دهور توال والرباب على فمي
وأعزف للأنسان سّر تميمتي
وأستل من تيه الوجوه خلالها
وما دفقته في سراب الخديعة
أغوص بها حتى يذوب شغافها
وأنفذ حتى في جذور الغريزة
ومهما تلوت نظرة أو تخالست
رميت لها صياد كل خبيئة
فما فاتني وجه ولو كان زاده
من التيه ليل غارق في سكينته
والشاعر هنا، يمارس ما يمكن ان يسمى “بالإستلهام الإيجابي” فهو لا يسترخي تحت ظلال أشجار “وادي عبقر” وينتظر أن تهبط عليه “ملكة الإلهام” ولكنه يسعى إليها ويسلك الدروب “الوعرة الناعمة” من أجل لقائها وهو يحمل في فمه “الناي” وعلى ذراعية “الرباب” لكن محمود حسن اسماعيل بارع كذلك في إستقبال لحظة الألهام حين تهب عليه رياحها الطيبة، وهو يرصد ما تحدثه اللحظة في بدن الشاعر ونفسه وأحرفه وحاضره وماضيه وكيف يبعث من رقدته نازعاً عنه أكفان اللحظة الميتة التي كانت خالية من صحوة الإلهام، يقول في إحدى قصائده “قاب قوسين”:-
ضج الهوى في بدني
فهل نزعت كفني
وجئتني بالسحر والماضي الذي بددني
ونشوة لم أدر إلا أنها توقظني
وتطلق الريح لآفاقي وتزجي سفني
ضج الهوى في بدني فزلزليني وأسكني
وأحرقي كل هشيم في الحياة لفّني
وكل صمت راح في رماده يدفنني
ويغرس النسيان في كل تراب ضمني
سوقي إلى قلبي عذاباً خالداً يرحمني
هذه صحفة من رصد روح الألهام الشعري إرسالاً واستقبالاً عند محمود حسن إسماعيل، تقف إلى جانب سويد بن كراع وريمون كينو والآف الشعراء المبدعين والملهمين لتحيي الشعر في مناسبة يومه العالمي.