مطران.. في بيت الشعر
بقلم: د. أحمد درويش
في الأسبوع الماضي، حلّ الشاعر العربي الكبير، شاعر القطرين خليل مطران (1872 – 1949) ضيفاً على “بيت الشعر” في مبناه المملوكي التراثي العتيق في حضن الجامع الأزهر تحت سفح جبل المقطم بالقاهرة، وهو مبنى من بقايا قصور العصر المملوكي يطلق عليه “بيت الست وسيلة” أهدته الدولة للشعراء ومحبي الشعر من المصريين والعرب ومحبي الشعر العربي من أبناء كل اللغات، الذين يتلمسون عبق التاريخ وهم يقصدون “بيت الشعر” سواء من خلال تحركهم في شوارع القاهرة الفاطمية الضيقة، المحيطة بحي الحسين والجامع الأزهر وهم في طريقهم إلى بيت الشعر، أو من خلال هبوطهم درجات سلمة الحجرية العتيقة وهم ينزلون إلى بهوه الواسع وقاعاته الفسيحه وأسقفه المرتفعة ونوافذه المستطيلة العالية التي تبعث من الضوء وإعتدال المناخ، أضعاف ما تبعث النوافذ والحوائط العصرية، وأجهزتها التي تقنن حركة الضوء والحرارة، ومن خلال هذا المناخ المحيط يولد الشعور “بالعتاقة” وإمتداد جذور المدن، وهو شعور قد تحرم منه كثير من المدن “الجديدة” رغم حاجتنا وحاجة العصر اليها، لكنه أيضاً شعور قد يلائم تراث الشعر العربي، الذي يمتد جذوره لأكثر من خمسة عشر قرناً، فيما تراه عيوننا، وأضعافها فيما يمتد وراءها، ونستشعره، حتى وإن ضاعت تفاصيله عنا، وهو إمتداد ما زال حياً في نفوسنا حين نترنم أو نتألم أو نحب أو نكره، وفي تعبيراتنا حين نزاوج لحناً أو نفرده، وترسل قولاً أو نقيده، ونرصد إيقاعاً أو نطلقه ونحن بحاجة إلى أن تكون علاقتنا بهذا التراث الممتد الغني، علاقة التواصل والإفادةحتى ولو كان في شكل “القطيعة الإيجابية” التي تحتفظ بالجذور الحية الممتدة، وتجدد في الفروع والأغصان والأوراق والثمار فيتخلق لديها متانة الأصل، ونضاره الفرع وذلك يتطلب بالضروره التنبيه الى مخاطر “القطيعة السلبية” التي قد يختلط فيها نوايا التجديد بملامح التقصير ويدخل إلى حليتها الموهوبون الأصلاء، يزاحمهم من حرم من موهبتهم، وأفسد عليهم وعلى الشعر محاولاتهم من الدخلاء في إطار هذا التصور من التواصل والتجديد، تجري لقاءات “بيت الشعر” القاهري ويلتقي فيه شباب المبدعين مع كهولهم وشيوخهم، ومن حولهم نقاد الشعر ومحبوه، وهو يستقبلون بين الحين والحين أشعة كاشفة من أعلام هذا التراث الغني الممتد.
وفي هذا الإطار حلّ في الأسبوع الماضي، الشاعر الكبير “خليل مطران” ضيفاً على بيت الشعر في “بيت الست وسيلة” بالقاهرة الفاطمية المملوكية، ومطران رحل جسده بالطبع عن عالم الأحياء، منذ ما يقرب من سبعين عاماً، ولكن إبداعاته الشعرية التي تسكن جسد اللغة وتطيل في عمرها باقية بقاء كثير من أسلافه ومعاصريه الشعراء من أمثال إمرىء القيس وطرفة وعروة بن الورد والشنفرى الأزدى وجرير وبشار والبخترى وأبي تمام والمتنبي وأبي فراس وأبي العلاء وأبن زيدون والبنهاني والستالي والحبسي، وأبي مسلم البهلاني والبارودي وشوقي وحافظ، وغيرهم من كبار شعراء العربية في كل زمان ومكان.
لكن “الميزة” التي برزت جلية عند مطران، وإن لم يتفرد بها بل قدّمها نموذجاً لمن طلبها من الشعراء والمبدعين، تمثلت في قدرته الخارقة على إحداث توازن بين المحافظة على جذور الثقافة العربية الأصيلة والنمو بها، والإستفادة في الوقت ذاته إلى آخر مدى ممكن من الثقافات الأجنبية، التي كان ضليعاً في معرفة لغاتها مثل الفرنسية والإنجليزية، نافذا ً إلى أسرار أدابها متشرباً ومتمثلاً لها، ومترجما روائعها ليقدمها لقراء العربية في ثوب جديد وبيان ناصع، أنعش الترجمة والثقافة معاً، ويكفيه ما قدمه من روائع شكسبير وراسين وكورني وهيجو، كان خليل مطران قد ولد سنة 1872 في بعلبك في لبنان، من أسرة عربية يمتد نسبها الى الغساسنة وتعلم في بيروت العربية والفرنسية، وتولى تدريسهما، ثم سافر الى باريس وأختلط بأدبها وأدبائها، ثم هاجر الى مصر سنة 1892، وهو في العشرين من عمره وظل بها بقية حياته، حتى توفي بها سنة 1949 وبها أصدر أول دواوينه سنة 1908، وهو الديوان الذي حملت مقدمته ملامح التجديد والأصالة للشعر العربي في القرن العشرين، حين يقول عن جانب الأصاله أنه كتب شعره “متابعاً عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه، ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقاً زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ والتراكيب، لا أخشي إستخدامها أحياناً على غير المألوف من الأستعارات والمطروق من الأساليب ” لكنه يضيف في المقدمة القصيرة، وهو يتهكم على بعض النقاد الجامدين، الذين يعارضون التجديد: “قال بعض المتعنتين الجامدين من الناقدين، إن هذا شعر عصري، وهموا بالأبتسام، فيا هؤلاء نعم، إن هذا شعر عصري، وله على سابق الشعر، مزية زمانه على سالف الدهر، هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافيه على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره وشاتم أخاه، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها..” وهذا القانون المتوازن، جدير بأن تعاد قراءته، وقراءة الشعر الذي بني عليه، من شعراء العصر ونقاده.
لقد ظل جانب من شعر خليل مطران متفرقاً في صحف ومجلات القرن العشرين، رغم طباعة ثلاثة أجزاء من ديوانه في حياته، حتى شرفت بجمع كل متفرقاته في ديوان من خمسة مجلدات كبيرة، أصدرتها مؤسسة البابطين عام 2010 وهو متاح بالمجان، قراءة وتحميلاً في موقعي على شبكة التواصل، فأهلا بخليل مطران في بيت الشعر وفي عقول وعيون الشعراء والنقاد المعاصرين.
د. أحمد درويش