من تأثير الثقافة الفرنسية على شعراء معجم القرنين
بقلم الدكتورة رشا صالح
كان للثقافة الفرنسية أثر بارز، على الآدب العربي عامة بأجناسة الأدبية المختلفة ومن بينها الشعر، على إمتداد القرنين التاسع عشر والعشرين وخاصة في منطقتي الشام ومصر من خلال موقعهما المركزي في العالم العربي، وأتصالهما الوثيق بالثقافة الفرنسية منذ أواخر القرن الثامن عشر مع مجىء نابليون ومن رافقه من الباحثين والمنقبين والعلماء، ومن لحق بهم في فترة الولع الرومانتيكي بالشرق العربي من أمثال السان سميونيين وكبار الأدباء من أمثال جيرار دي نرفال وفلوبير، وشاتو بريان ولامارتين ونيوفيل جوتيه، ويضاف اليهم أدباء كثيرون أولعوا بالشرق دون أن يزوروه من أمثال فيكتور هوجو وباحثون في تاريخ الشرق القديم والوسيط والآثار الفرعونية من أمثال شامبليون وجومار، ومئات الباحثين الذين أنجزوا موسوعة “وصف مصر” في زمن قياسي لم يتجاوزالعقدين، في حين أننا تجاوزنا القرنين في محاولة ترجمة هذه الموسوعة الهامة التي تصل حاضرنا وتراثنا إلى لغتنا العربية.
وعلى الجانب الآخر كان نهم الإستقبال والتفاعل والتأثر والتمثل واضحاً عند كبار الأدباء والشعراء العرب، إنطلاقاً من رفاعة الطهطاوي خلال سنوات إقامته في فرنسا في بداية الربع الثاني من القرن التاسع عشر حين انطلقت قصائده المترجمة عن الآدب الفرنسي أو المتأثرة به، ولم ينتظر حتى عودته الى أرض الوطن ليبثها لقرائه العرب، لكنه فتش عن مطبعة عربية في باريس ليصدر من خلالها بواكير التأثر الأولي للشعر العربي بالشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر من خلال ترجمته لقصيدة “نظم العقود في كسر العود” للشاعر جوزيف أجوب.
وأستمرت حركة التفاعل بين الآدبين في التنامي خلال العقود التالية ترجمة ومحاكاه وتمثلاً وتأثراً وبرزت أسماء مثل محمد عثمان جلال وأحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وخليل شيبوب، وإبراهيم ناجي وعلى محمود طه، والياس أبو شبكه وبشارة الخوري وأدونيس، فضلاً عن أسماء عشرات النقاد والكتاب الذين وجهوا وحللوا وفتحوا مجالات أكبر للتأثر بالثقافة الفرنسية من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ويحي حقي وأحمد حسن الزيات ومحمد مندور وغنيمي هلال وزكريا عناني، وغيرهم من أصحاب الثقافة الفرنسية.
ولقد كان لأمير الشعراء أحمد شوقي على نحو خاص، ولع كبير بالثقافة الفرنسية وتمثل لها وتأثر واع وإيجابي وعميق بتياراتها، وتحول هذا التأثر إلى تطوير حقيقي للشعر العربي، وهو تطوير إمتد من شعر شوقي نفسه ليشكل تياراً عاماً في النتاج الشعري العربي، إنطلاقاً من مكانة شوقي، وعظم تأثيره في جيله والأجيال اللاحقه له.
كان شوقي منذ ذهابه الى فرنسا، دارس للقانون والترجمة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر وقد شده الأدب الفرنسي، وبدأ يقترح ألواناً من التجديد في الشعر العربي على ضوء ما رآه، وكان أولها “الشعر المسرحي” الذي بدأ وهو في باريس كتابة تجربته الأولى في الأدب العربي في شكل مسرحيتة علي بك الكبير الشعرية، ومن المفيد تأمل ماكتبه شوقي في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه سنة 1898، حول ظروف كتابة المسرحية الشعرية الأولى وهو في باريس، يقول شوقي: “ثم نظمت روايتي على بك الكبير، أو فيما هي دولة المماليك وبعثت بها قبل التمثيل بالطبع إلى المرحوم رشدي باشا، ليعرضها على الخديوي.. فوردني منه كتاب باللغة الفرنسية، يقول في خلاله: أما روايتك فقد تفكه الجناب العالي بقراءتها، وناقشني في مواضع منها وناقشته، وهو يدعو لك بالمزيد من النجاح، ويجب أن لا تشغلك دروس الحقوق التي يمكنك تحصيلها وأنت في بيتك بمصر، عن التمتع بمعالم المدينة القائمة أمامك، وأن تأتينا من مدينة النور (باريس) بقبس تستضيء به الآداب العربية” فصادقت هذه النصيحة الغالية من أمير ذكي حكيم، في فؤاد مطوي على طاعته نازل على حكم الشعر والأدب، فترجمت القصيدة المسماه بالبحيرة من نظم لامارتين، وهي من أبيات الفصاحة الفرنساويه.. وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهير، فنكت إذا فرغت من وضع اسطوريتين أو ثلاث، أجتمع بأحداث المصرين وأقرأ عليهم شيئاً منها يفهمونها لأول وهلة…. وأتمنى لو وفقني الله لأجعل لأطفال المصرين.. مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة، منظومات قريبة التناول و يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم”
وهذا إعتراف هام، بتأثير الثقافة الفرنسية على نشاة جنسين جديدين في الشعر العربي هما المسرح الشعري وأدب الأطفال، لكن شوقي يشير في نفس المقدمة إلى أسماء شعراء أخرين فرنسيين يدين لهم بالإعجاب، وفي مقدمتهم فكتور هيجو، والفريد دي موسيه.
وإذا كان شوقي لم يفصل القول في تأثير هؤلا الشعراء وغيرهم من الشعراء الفرنسيين من أمثال راسين وكوريني ونيوفيل جوتييه، فلأن هذا ليس من عمل الشاعر، وإنما هو من عمل الناقد والدارس، والمحلل وعلى أية حالة فإن شعره المطروح بين أيدينا نمى بشواهد هذا التفاعل الإيجابي والتأثر الحميد بالأدب الفرنسي.
وسنحاول الوقوف هنا أمام نموذج واحد من نماذج تأثر شوقي بالشاعر الفرنسي الكبير فكتور هيجو (1802 -1885) وقد عاصره شوقي في جزء من حياته، وذهب الى باريس بعد سنوات قليله من رحيله وكان ما يزال ملء السمع والبصر، وقد أشار اليه شوقي في مقدمة ديوانه سنة 1898.
والنموذج الذي نشير اليه لم يجد عناية كبيرة من دراسي شعرشوقي من قبل، وهو يتعلق بنزعة الشعر التاريخي التي ظهرت واضحة في شعر شوقي وضوحاً لم تألفه تقاليد الأدب العربي من قبل، وهي نزعة شديدة الوضوح عند فكتور هيجو وخاصة في قصيدته المطولة “أسطورة القرون” La Legende des Siecle التى كتبها بعد سنة 1852 خلال منفاه في جزيرة جيرسي بالمحيط في حكم نابليون الثالث، وكتب أحمد شوقي على منوال قريب منها سنة 1896، قصيدة تقدم بها إلى مؤتمر المستشرقين في سويسرا، وأطلق عليها “كبار الحوادث في وادي النيل” وجاءت في نحو ثلاثمائة بيت من بحر الخفيف على قافية الهمزة.
والإطار العام للقصيدتين واحد في مجمله وهو رصد التطور التاريخي شعراً وإن كان فيكتور هيجو يستهدف تاريخ الإنسانية وشوقي يكتفي بتاريخ مصر وكبار الحوادث التي جرت بها، لكن القصيدتين لا تهدفان الى مجرد نظم التاريخ وإنما الى التفسير الشعري لمسيرته، ومن هنا فإن نقطة البداية في إنطلاق القصيدتين، تبدو واحدة وهي الأنطلاق من صفحة الماء، أصل الحياة ورمز المطلق واللامحدود، وهو مهاد ملائم لحركة خيال الشاعر، التي لا يحدها شىء فوق سطح البحر، شأنها شأن الموج المتلاطم والسفن السابحة والطير الهائمة.
يقول فيكتور هيجو في مقدمة أسطورة القرون : يصف موقعه فوق شاطىء المحيط في جزيرة جيرسي:
عندما أكتب وأنا أفكر في شرفتي
أرى الأمواج تولد وتموت… ثم تولد لتموت
وأرى الطير الأبيض يسبح في الهواء
والسفن تنشر أشرعتها للريح
كأنها على البعد وجوه كبيره تتنزه على البحر.
إن عناصر صورة الإفتتاح عند هيجو التي ينسجها من مفردات الماء والبحر: الأمواج التي تعلو وتهبط، تولد وتموت، وأشرعة الفلك التي تجري على الماء يصارعها وتصارعه، والأشرعة البيضاء الخفاقة، والطيور البيضاء المحلقة ، هذه العناصر تشكل كذلك النسيج الرئيسي للصورة في إفتتاحية قصيدة أحمد شوقي التاريخية “كبار الحوادث في وادي النيل” حيث تجىء لوحة الإفتتاح على النحو التالي:
همت الفللك وأحتـــواها المـــــــاء | وحداها بمن تقل الرجــــاء |
ضرب البحر ذو العباب حواليـــها | سماء قد أكبرتها السمــــاء |
ورأى المارقون من شرك الأرض | شباكـا تمدها الدأمـــــــــاء |
وجبالاً موائجاً في جبــــــــــــــــال | تتدجي كأنها الظلمـــــــــاء |
ودوياً كــــــما تـــــــــــأهبت الخيل | وهاجت حماتها الهيجــــاء |
لجـــــــة عند لجــــــــة عند أخرى | كهضاب ماجت بها البيداء |
وسفــــين طـــــــــوراً تلوح وحينا | يتولى أشباحهن الخفــــــاء |
رب إن شئت فالفضـــــــاء مضيق | وإن شئت فالمضيق فضاء |
كان فكتور هيجو قد أنتقل من مشهد البحر الذي ساعده على التقاط خيط البداية للحركة الشعرية، فخصص قصيدته الأولى “للأرض” في عصور البشرية الأولى، مع آدم وحواء وقابيل وهابيل إمتداداً إلى المسيح، ثم أعقبها بقصيدة أخرى عن أساطير الأغريق التي إمتدت بمناخها الى أساطير العصور الوسطى، ثم خصص للأسلام القصيدة الرابعة من ملحمته مشيداً بشخصية الرسول العظيم ومواقفه في حجة الوداع في قصيدة حملت عنوان العام التاسع للهجرة، ومشيداً بشخصية عمر بن الخطاب الذي أهدى له قصيدة شجرة السدر قبل أن ينتقل الى سلاطين العثمانيين وخاصة السلطان مراد ومحمد الثاني والظاهر بيبرس من سلاطين المماليك، ثم يعود الى عصر النهضة والثورة الفرنسية ونابليون وسوف نعود الى قصيدته لاحقاً بالتحليل والتمثيل.
لكن شوقي في قصيدته لم يغادر تأمل “البحر” بهذه السرعة وينتقل الى “الأرض” كما فعل هيجو ولكنه أتخذها منطلقاً لتأملات العبادة ومظاهر السيادة وتفسير التاريخ.
فمن زاوية تأملات العبادة أسترشد شوقي بالروح السائدة في آيات القرأن الكريم والتي تجعل من ركوب البحر مظنة للخوف والخشوع والدعاء لله بالنجاة في مثل قوله تعالى “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ” (يونس 22) وهذه الروح تسيطر على شوقي فلا يكتفي باللجوء إلى الله من مخاوف البحر لكنه يجعل البحر نفسه عابداً ومصلياً، فإذا ما علت أمواجه فذاك قيام وإذا ما هبطت فذاك سجود وإذا مارغت فذلك دعاء وإتساع أمواجه كتاب فيه لله دعاء وثناء.
يَتَوَلّى البِحـارَ مَهما اِدلَهَمَّت | مِنكَ في كُلِّ جانِبٍ لَألاءُ |
وَإِذا ما عَلَت فَـذاكَ قِيـامٌ | وَإِذا ما رغت فَذاكَ دعاء |
فَإِذا راعَها جَلالُكَ خــَرَّتْ | هَيبَةً فَهيَ وَالبِساطُ سَواءُ |
وَالعَريضُ الطَويلُ مِنها كِتابٌ | لَكَ فيهِ تَحِيَّةٌ وَثَنـــاءُ |
لكن البحر من ناحية أخرى، عند شوقي، هو مفتاح التاريخ ورمز السيادة، ولأن “الشرق” أمسك مفاتيح البحر فقد أمسك مفاتيح التاريخ، ولأن مصر درة الشرق فقد كانت كذلك درة التاريخ.
وَاِنتَهَت إِمرَةُ البِحارِ إِلى الشَر | قِ وَقامَ الوُجودُ فيما يَشـاءُ |
وَبَنَينــــا فَلَم نُخَلِّ لِبانٍ | وَعَلَــونا فَلَم يَجُزنا عَلاءُ |
وَمَلَكنا فَالمـــالِكونَ عَبيدٌ | وَالبَرايا بــِأَسرِهِمْ أُسَراءُ |
قُل لِبانٍ بَنى فَشادَ فَغـــالى | لَم يَجُز مِصرَ في الزَمانِ بِناءُ |
هكذا يصل شوقي عبر أكثر من عشرين بيتاً في قصيدته إلى النقطة التي يود أن يروي من خلالها “كبار الحوادث في وادي النيل” ولنلاحظ أن النيل الذي أختاره جزأ من عنوان قصيدته، هو أيضاً بحر صغير وكأن الشاعر وهو ينسج حكايته أراد أن يكون عرشه على الماء بكل ما يعنيه ذلك من شاعرية وحرية حركة وإتساع أفق وعلو وهبوط يتتابعان على الأمواج دون توقع في كثير من الأحايين، شأنها في ذلك شان تاريخ مصر الذي يوشك الشاعر أن يغمس قلمه في ماء البحر ليكتب خيوطه العريضة، وكأن البحر مداد لكلمات الشاعر.
وإذا كان الشاعر قد أراد أن يحط على الأرض ليسجل تاريخ عظماء الرجال في مصر، فهو لم يشأ أن ينتقل من “أساطير” قوة البحر إلى الواقعية المحدودة لقوة الأنس، فيجعل بينهما سلماً وسطاً يتحرك عليه وهو “قوة الجن” حين جعل هؤلاء الجن أصحاب القوى الخارقة يجفلون من عزائم الفراعنة:
أَجفَلَ الجِنُّ عَن عَزائِمَ فِـرعَو | نَ وَدانَت لِبَأسِها الآنـاءُ |
شادَ ما لَم يُشِد زَمانٌ وَلا أَنـ | ـشَأَ عَصرٌ وَلا بَنى بَنـّاءُ |
وكأن شوقي هنا قد نظر وهو يمهد للحديث عن أهرامات الفراعنة ومعابدهم التي شادوها، إلى قوله سلفه البحتري في سينيته وهو يتحدث عن ما شاده الفرس في الإيوان:
ليس يدري أصنع إنس لجن | سكنوه أم صنع جن لأنس |
وتستمر صورة بناء الفراعنة لأثارهم منسوجه من أنفاس السياسةوالدين ودعاوى الحاسدين.
زعموا أنها عائم شيــــــدت | بيد البغي ملؤها ظلمــــــــــــــــاء |
ان يكن غير ما أتوه فخـــــار | فأنا منك يا فخار بـــــــــــــــــراء
|
وبمنطق الموج الذى يتحرك طغت امواج الدهر على الفراعنه
|
|
فعلاً الدهر فوق علـــــــــياء فرعو | ن وهمت بملـــــكه الارزاء |
وتتوالى صفحات الغدر والإذلال على تاريخ مصر، واذا بالرعاة يصيحون ذئابا حين يغزو الهكسوس مصر، ويبالغون فى ظلم أهلها مبالغة جائروة تدفع الضعيف المستكين الذى يستهان به الى أن يجمع قواه، ويثور فى وجه ظالميه، وهنا لا تفوت شوقى نزعة الحكمة الشعرية العميقة التي تأصلت في شعره منذ بواكيره وتلك القصيدة من هذه البواكير) حين يقول فى نفس يمتزج فيه التاريخ بالشعر بالحكمة.
إن ملكت النفوس فابغ رضاها فلها ثورة وفيها مضاءُ
يسكن الوحش للوثوب من الأسر فكيف الخلائق العقلاء
يحسب الظالمون أن سيسودون وأن لن يؤيد الضعفاء
والليالى جوائز مثلــــما جارواً وللدهر مثلـــهم أهواء
ونتخذ الشوق من الحكمة سلما يصعد فوق درجاته الى مرحله صحوة التاريخ وإرتفاع أمواجه حين يحكم مصر رمسيس الأكبر فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد (1292-1225 ق.م ) وهو الذى سماه اليونان سيزوستريس وفى عهده ساد العلم والعدل والعمران وارتفع البنيان، وأنتصرت جيوش مصر فى كل مكان وتألق الشعر وعلا نجم بنتاهور شاعر مصر الكبير، ويرصد شوقى نحو عشرين بيتا فى قصيدته لوصف جوانب التألق فى حضارة مصر فى عهد رمسيس الأكبر.
ثم ما تلبت أن تأتى موجه أخرى تنقلب من حالة ” المد ” إلى حالة ” الجزر” وشوقى يستعمل دائما مفردة ” الدهر “فى التعبير عن حالات الجزر، وكما قال فى طي صفحة الهكسوس .
والليالى جوائر مثلما جاروا وللدهر بينهم أهواء
فهو يقول هنا فى الانتقال إلى حالة ” الهبوط ”
هكذا الدهر حالة ثم ضد مالحال مع الزمان بقاء
وكأنه ينظر هنا الى سلفه ابى ذويب الهذلي فى عينيته الشهيرة فى رثاء أولاده، وهو يجعل المدخل إلى كل مراحل فناء الكائنات هى عبارة ” والدهر لا يبقى على حدثانه “، أو إلى الآيه القرأنيه ” وما يهلكنا إلا الدهر ”
ومرحله ” الجزر ” التاليه فى تاريخ مصر التى يرصدها شوقي، فى ” كبار الحوادث فى وادى النيل” هى مرحلة ” قمبيز ” الملك الفارسى الذى غزا مصر فى القرن السادس قبل الميلاد عام 525 ق.م وقد كانت فترة قمبيز وحكم الفرس مليئه بألوان الظلم والإضطهاد والفساد والإذلال، وقد رصدها شوقي هنا فى لوحة من نحو عشرين بيتا، صور فيها نماذج مؤلمة من صنائعهم، لكنه لم يرو، شعرياً، رصد كل ما أنارته هذه الفترة في نفسه من تقزز فعاد ” مفاد اليها مرة أخرى فى مسرحه الشعرى، حين خصص لها مسرحية ” قمبيز” كما عاد اليها فى كتاباته النثرية، حيت أشار اليها فى روايته ” دل وتيمان” أو أواخر الفراعنة ” التى كتبها سنه 1899 وتعرض فيها للكثير من سلبيات فترة قمبيز.
وقد جاءت اللوحة التى سمها شوقي لحكم الإسكندر فى تسعة أبيات لكنها مليئة بأيات التقدم والمجد التى يربطها شوقي بالبحر .
عاش عمراً فى البحر ثغر المعاني والمنـــــــــار الذى به الإهتداء
ببعـــــــــث الضوء للبلاد فتسري فى سنــــــــــاه الفهوم والفهماء
والجـــــــوارى فى البحر يظهرن عزة الملك والبحر صولة وثراء
ويقلب التاريخ صفحة الإسكندر الأكبر ليفتح صفحة البطالمة الرومان الذين حكموا مصر فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، ويجعل شوقي محور الحدث التاريخى والشعرى فيها ” أنثى ” هى التى مهدت للشر، وسحرت بجمالها القياصرة، فهلك فمنهم من هلك، ومن استعصى عليها أن تهلكه دونها، أهلكته بالحب والسم معها، وهو يتحدث هنا عن “كليوباترا” التى أولع بتاريخها الشعراء على اختلاف مواقفهم تجاهها، وعاد اليها شوقي نفسه ، برؤية جديدة، فى مسرحية شعريه تاليه حول” مصرع كليوباترا” الذى جاء على لعاب حية رقطاء.
سلبتها الحياة فاعجب لرقطاء اراحت منها الورى رقطاء
لم تصب بالحياة نجحا ولكن خـــــدعوها بقولهم حسناء
وهذه الجملة الأخيرة فى وصف كليوباترا، اعجب بها شوقي فعاد ليجعلها مطلعاً لقصيدة أخرى فى كل امرأة مخدوعة بالحسن، ويرصد شوقى فى لوحة أنماط العبادات الوثنية التى مرت على مصر قبل فترة الديانات السماوية فضلت فى طريقها الى الأله الواحد.
وأتخذت من دونه اسماه يقربونها إلى الله زلفى، حتى جاء موسى فإنتهت الأسماء كلها لله:
وإتخذنا الأسماء وشتى قلما جاء موسى أنتهت لك الأسماء
ويلاحظ ان شوقى عدل فى مسيرته هنا عن رصد التاريخ من خلال الدول والممالك، الى ظهور الديانات، التى مهد لها بمظاهر العبادة عند قدماء المصريين فى صورة أمون، واببس وايزيس واوزيريس، وغيرها من صور تجسيد الخضوع لله.
وعند الحديث عن موسى يثير شوقى مفارقات الولاء والعداء والإنتماء وربط ذلك بالتاريخ، فموسى عاق لمن رباه، لكنه وفي لمن أرسله وهو مطرود من مصر، لكنه منسوب اليها :
فرأى الله أن يعق ولله تقى لا لغيره الأنبياء
مصر موسى عند إنتماء وموسى مصرا إن كان نسبة وإنتماء
ثم تأتى لوحة المسيح في إطار شعرى نورانى هادى :
وسرت آيه المسيح كما يسرى من الفجر فى الوجود الضباء
تملأ الأرض والعوالم نورا فالثرى هائج بــــــها وضـاء
لا وعبد لا صولة لا إنتقام لا حسام لا غزوة لا دمـــــاء
ملك جاور التـــــراب فلما مل نابت عن التراب السماء
وتمتد اللوحة لتشمل إنتشار اشعه دين المسيح فى مصر وفى أرجاء دولة القياصرة
وبعد لوحة المسيح، تأتى لوحة ظلمات ما قبل الفجر متمثله فى تخبط الوثنيه، وتعدد المعبودات .
فالورى فى ضلالة مثماد يفتك الجهل فيه والجهلاء
عرف الله ضلة فهو شخص او شهاب أو صخرة صماء
وياتى إشراق النور على العالم من خلال البعثة المحمديه التى يخصص فيها شوقى عدة لوحات قصيرة متتاليه، اولاها لوحة عن ” اليتيم الأمى البليغ ” واستجابة القوم لمعجزته، ويلاحظ هنا عدم الوقوف كثيرا عند السمات الجسدية كما صنع فكتور هيجو عند وصفة للنبى محمد فى ” اسطورة القرون” كما سنرى ثم لوحة قصيرة عن جبريل حامل الفرقان بجناحيه النورانيين، ثم لوحة أكثر تفصيلاً عن الأمة التى حملت الرسالة الهاديه ونشرتها فى أرجاء الأرض.
كلما حثَّت الرِكابَ لأرضٍ جاور الرشدُ أهلَها والذكاءُ
وعلا الحق بينهم وسما الفضل ونالت حقوقها الضعفاء
نحمل النجم والوسيلة والميزان من دينها الى من تشاء
وتمتد هذه اللوحة لتقف أمام بعض أعلام امة الإسلام فى مسيرتها الطويلة، وعلى رأسهم عمرو بن العاص حامل الضاد الى ارض النيل
ويمتد فى لوحة تالية إلى الأيوبيين وصلاح الدين حماة بيت المقدس من موقعهم فى مصر. كما كان عمرو ناشر العربية من موقعة فيها، ثم يرسم لوحة للصلبيين المعتدين على مصر وجمعهم يتمزق ، وملوكهم تؤسر وتقتل ورؤوس العرب والمسلمين ترفع.
هكذا المسلمون والعرب الخالون لاما يقوله الأعداء
فيهم فى الزمان نلنا الليالى ويهم فى الورى لنا انباء
ليس للذل حيلة فى نفوس يستوى الموت عندها والبقاء
وفى لوحة تاليه يحاول أن يدافع عن الترك ويذكر أن الذين أساءوا إلى سمعتهم، هم المماليك الشراكسة الذين حكموا عنهم فشوهوا صورتهم ثم رسم لوحة للحمله الفرنسية ومطامح نابليون التى تحطمت على صخره مصر كما تحطمت من قبل مطامح روما عليها.
ولو استشهد الفرنسيس روما لأتتهم من رومه الأنبياء
علمت كل دولة قــــــد تولت إننا سمــــها وانا الوباء
وينهى شوقى قصيدته الطويلة بلوحة عن مأثر اسرة محمد على هى إلى المديح أقرب منها الى الرصد التاريخى أو الشعرى.