من مجاز اللغه الى لغه المجاز

من مجاز اللغه الى لغه المجاز

من مجاز اللغة إلى لغة المجاز[1]

قراءة في ديوان أصدق شمس الشتاء لعمر حاذق

“الشعر يصنع من الكلمات لا من الأفكار” هكذا يقول النقاد … لكن هذه الكلمات عند الشاعر الجيد، تشكل التخوم والملامح للرؤية الخاصة والعالم الخاص ، والمذاق الخاص وإذا وجدنا في أنفسنا بعد هذا كله رغبه في أن نبحث عن الأفكار فلسوف نجد ما يمكن أن يسمى أفكارا خاصة .

ونحن مع ديوان ، يملك من هذه العناصر وغيرها من عناصر الشاعرية الأصلية، قدراً كبيراً ووعوداً ثرية تمتد بامتداد سحائبه الممتلئة الضروع والمنتشرة فى أفاق بحره الهادئ الهادر معا والذي لا تفلت إرهاصات الغيث فيه من العيون والأنوف والأذان المتعلقة بعالم البحار والبحور معا .

وإذا قلنا : إن الأنثى والبحر يشكلان المداخل الجذابة المغرية لهذا العالم الشعري الجميل ، فإنهما يستدعيان بالضرورة ما يتناغم معهما استكمالا أو تقابلا سعيا لبناء الكوخ الخاص، الذي يضمك في المطلق ، فلا تفتقد داخلة من شدة الأنس والملاءمة ، القصر المنيف ولا الحصن المنيع . بل هو كل العالم ما دمت فيه ، طالت اللحظة أم قصرت ، فإذا خرجت منه ، لا تخلو من نزعة الحنين للعودة إليه . و ” الرقة ” التي تغلف الأنوثة والبحر، وتشع منهما ، ولا تعنى الضعف ولا السلبية ، ولا تختلط بهما ، بل تشكل ملامح ” القوة الناعمة ” التي قد تولد الطاقة أو تفتت الصخور والجبال ، كما تصنع قطرات الماء المتجمعة ، وقد تزيح الستائر عن مواطن من الإبداع والجمال ، يحجبها طغيان الفحولة الهادرة إذا انفرد وحده بمفهوم القوة الفاعلة المنشودة . هكذا بدأت القصيدة الأولى من الديوان : ” لو أنى كنت المتنبي ” تأخذ شكل ” المعارضات الشعرية ” ، وهو فن عريق فى الأدب العربى ، يسير فيه اللاحقون على خطى السابقين مع شد الأوتار تأهباً لجلال حلبه المنافسة ، ولكن الجديد فى المعارضة هذه المرة ، إنها ليست معارضة لبناء الشعر وإنما هى معارضة لمفهوم الشاعر . إنه حوار شعري بين صوتين يفصلهما أكثر من ألف عام حول قوة الشعر الهادرة أو قوة الشعر الناعمة .

وإذا كان الصوت الأول ينتمي إلى طائفة العمالقة الراسخين . وينتمي الثاني إلى طائفة الشداة الصاعدين فإن ذكاء التقاط محور المعارضة ، حول مفهوم الشاعر وليس حول بناء الشعر ، كما جرت سنه المعارضات ، قد اكسب التجربة مذاقا خاصا وجعلها تعارض المتنبي من تحت عباءته او من مسام إرهابه.

لم تكن قمة المفارقة تكمن في المقطع الذى اختتمت به القصيدة:

مسكين ذاك المتنبي ..

إي والله

شغل الناس جميعاً

لكن لم تكن امرأة مثلك تقربه ..

أو حتى لم تأبه له .

فنحن لا نعلم – بل وقد لا يهمنا أن نعلم  إن كانت النسوة يقتربن من الشاعر أو ” يأبهن له ” لكن المفارقة كانت في أن شعره – فيما يظن الشاعر اللاحق – لم يأبه لنقاط القوة الناعمة فيهن وفى العوالم الضعيفة الرقيقة الهادئة الخافتة الأخرى ، والتي كان يمكن  أن يخلق منها طريقا موازياً للفحولة الهادرة :

لو أن أنامله باحت لكمان ذراعيها حتى عزفا،

لو داهمها الليل بوحدتها..

فأزاح قصيدته

قال كفى وحكى قصص النوم لها

لون في عينيها الأحلام الحلوة

شمسا تجلس في حضن الأفق

وتلعب في البحر بساقيها

لون

لون

حتى أغفت بسمتها بين ذراعيه…

ودفا.0

وهنا نلمس الملمح الأول لهذه الأصالة المتجددة ، أو هذا الامتداد المخالف الواعي ، أو هذا التمثل الذي يمتزج فيه الإرادي واللارادى ويحقق فيه الفنان ذاته دون أن يكون مضطرا لتغيير جلده ولون بشرته وهو عكس نزعه ” القطعية مع التراث ” التي قد تكون أكثر مناسبة لمراحل من التطور في آداب أخرى ، والتي ينساها بعض نقادنا دون تقدير كاف لملائمة  المنوال لخيوط النسيج ، وهو بالطبع عكس التقليد الجامد والسليفة العمياء .

كما لا تكفى الأفكار لصناعة شاعر متميز ، لا يكفى تحديد الأهداف لبلوغ السفينة مرساها في سهولة ويسر ، فدون ذلك أمواج وأنواء ورياح وظلمة وشعاب كامنة وصخور بارزة وكثيرة هي المحاولات التي تاهت في البحر الشعري ، أو راحت تزحم مداخله ومجراه ، متشابهة الأعلام والأحجام ، لا تكاد تحس فيها إلا ضجيج الملاحين وهم يهتفون بتفرد المسار أو قرب الوصول ، دون أن نحس من ذلك بالشيء الكثير .

إن صناعة اللوحة الكبرى الجيدة ، تمر بالضرورة بصناعة الوحدات الصغرى ، التي تتكون منها اللوحة . وينبغي أن نلمس الفن الجيد انطلاقا من أصغر ضربه فرشاة في اللوحة، أو غرز إبرة في النسيج ، أو طوبة في البناء أو نغمة في اللحن أو صورة في القصيدة أو مفردة في الخطاب ، ولدينا في هذا الديوان كثير من المفردات الفنية الصغري المتميزة التي تكاد تتشكل منها أبجدية صغرى ذات مذاق شعري خاص ، ترفد المجرى الرئيسي وتتواءم معه دون أن تفقد خصوصيتها ، وتصير نسخة مكررة من روافد أخرى.

ومن التقنيات الفنية الأخرى الشائعة في الديوان ما يمكن أن يسمى ” الصورة المضفورة الإشعاع “. وهى صورة تعتمد على التوالد الخفي غير المتعسف لصورة من أخرى . مع سريان إشعاع خاص من كل صورة إلى رحم الأخرى  والإحساس بمذاق التناغم في خاتمة اللوحة . إن المقطع التالي من قصيدة : ” أصدق شمس الشتاء ” يمكن أن يعبر عن هذا الإحساس الفني :

وعلم دموعك كيف تبلل شمس المحبين

إن أشرق الحزن فيهم فأبشر

وطير يمامك …

لابد يوما ستخبز كعكا لأطفالها،

فتشم حنينك ينبض بين أناملها

كالغزال الصغير المخبئ في العشب ،

إن الطيور تلون ألحانها لا لأفراخها كي تنام

ولكن لأشجارها

إن تنفس في رئتيها الخريف وعفر

سيأتي ربيع تربي له الأرض أطفالها .

وسيأتي شتاء صغير على عشقنا وسيكبر

فالدموع والشمس واليمام والكعك والأطفال والأنامل والغزال والعشب والطيور والأفراخ والأشجار والخريف والربيع والشتاء ، تلتقي جميعاً في هذه اللوحة الصغيرة التقاء ناعماً سلساً ، مع أن بعض صورها تخرج عن ” أفق التوقع ” ومن الذي يتوقع وهو يشم الحنين الذي ينبض بين الأنامل أن يظهر له الغزال الصغير المخبأ في العشب ؟ ومن الذي يتوقع أن الطيور هي التي تحنو على الأشجار وتلون لها الألحان ، وليست الأشجار هي التي تحنو على الطيور وتوفر لها المأوى ؟ إنها نفس الصورة المدهشة التي تكررت في قصيدة ” انعتقت روح سمائي” حين وجدنا الأغصان قد أصبحت يتيمة في غياب الحمائم وليست الحمائم مشردة في غياب الأغصان

من التقنيات الشائعة في الديوان ، تقنيات الحوار مع الأشياء المجردة أو المحسوسة ، وفى مقدمتها الحوار مع الحب :

يقولون يا حب عنك الكثير

وأعجب منك

كفأرين عيناك

قلبك أعور

( ومع إعجابي بالتقنية فلست مستريحا إلى صورة الفأر والقلب الأعور في فاتحة الحديث عن الحب ، حتى لو عكس ذلك المثل الشعبي : مرآة الحب عمياء ).

فدعنى أقل لك شيئا عن الحب يا حب …..

أنا لم أكن في الغرام نزاراً

وما كنت عنتر ..

أنا كنت زوج حمام

يبيض على غار عاشقة في الظلام تقبل عاشقها

ليظلل عنها ملاك الذنوب …….

إنه الحوار الذي تجدد مرة أخرى مع السحابة ، في قصيدة : ألا يفتح الحب بابه ؟!

….. فأسمعي يا سحابه …

تعالي ألون مياهك ، كى يفرح العشب

نامي على ركبتي …

احلمى لى ..

ألن يفتح الحب بابه …. فلا ترحلي يا سحابة .. قد ضاق بي وطنى

أخرجي الأن نهديك ،

عشبي تيتم من قسوة الماء ..

عندي سماء بقلبي وشمس وغابه

وعندي نجوم لمن يبدءون غراماً جديداً

وعندي بذور لمن قلعوا حلمه من حديقته حين نام فمن شاء هذا كلام القصيدة ..

في العش تجرى فروخ الكتابة .

إن حوارية الشاعر والسحابة ، انتهت إلى تشابه مصدر عطاء كليهما للمحرومين ، ولكن بنية القصيدة التي تحتضن هذا الحوار قد طالت إلى الحد الذي يخشى معه على الغيوم المكثفة ، أن يتبدد بعضها فوق سماوات البحر الواسعة ، أو يجف حملها وعطاؤها ، عندما يعتصرها المتلقي الظامئ .

إن النزعة الحوارية في الديوان مؤشر على ظاهرة أخرى ، تتضح بجلاء في قصائد النفس الطويل ، وهى نزعة المراوحة بين الغنائية والدرامية والوصول إلى بنية متكاملة ، يخرج المتلقي في نهايتها بحصاد ” درامي ” بعد أن يكون قد استروح أنفاس  الحدائق الغنائية خلال ارتقائه لدرجات القصيدة المتنامية بين لحظة البدء ولحظة الختام ، وإن كانت القصيدة تبدو في بعض الأحيان متداخلة الأطراف يكاد ختامها يقود إلى ابتداء جديد …

لكننا قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الملمح الفني نود أن نشير إشارة عابرة إلى الملمح المقابل له . وهو ملمح القصيدة المكثفة والتي لا تخلو قصائد الديوان من نماذج منها ، مثل قصيدة ” حبك ” التي تتشكل من ثلاث ومضات متتالية :

حبك

لم يعرف أبدا من أين وكيف .

حبك

رقرقنى نهرا  من نور الله

تحدر في قلب الدنيا

حتى اشرق بى في ألوان الطيف .

حبك

آواني

أطعمني من جوع

أمنني من خوف .

حيث يشكل الحب المبتدأ الموجز المكرر في الومضات الثلاث ويشتبك به “الخبر” المتنوع الموجز الموحي في آن واحد ، ويتوجه اقتباس تراثي شديد الملاءمة.

والمذاق السريع السلس ، لهذه الإبيجراما يشكل في سماء ديوان عمر حاذق نجمات قليلة قد تزداد انتشاراً في سماء الدواوين القادمة .

ولنعد إلى نزعة امتزاج الغنائية والدرامية في القصائد الطويلة، والتي تمثلها قصيدة: ” أنعقت روح سمائي التي تبدأ بتشكيل ملامح مكانها الخاص، فترسم سماءها وأرضها والبحر الذي تعده لزورقها حني يبحر فيه بسلاسة خارجاً من أفق المكان المعهود ، ولا تخطيء الأذن ولا العين ملمح التأثر الواضح بالتراث الديني والصوفي والشعرى ، وفى مقدمته الصورة القرأنية : ” فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ” ، التي ينسج منها سماء القصيدة ، بعد أن يغمسها الشاعر في صورة عصرية ” في حضن القشدة ” ثم يظلل بها أرضاً ، تقف على النقيض من لحظة الغفوة، فهي تصيح بكتاكيتها المفقوسة على الرقعة اليابسة في حقول القمح العسلية والسائلة في شلالات الحليب والكامنة بين اليبوسة والسيولة في قوارب الزبدة، وتأمل كيف جعل الشاعر من صفة “العسلي” معبراً ينزلق عليه من اليابس إلى السائل، إن الانزلاق يتم كذلك من المرئي إلى المسموع في المقطع الثاني الذي يتصدره صوت المطر ومحاكاته النغمية: “مطر من موسيقى / اررم تررم” وتتحول فيه الأعشاب الى أنغام، وتعبر الفراشات مسكونة بالألحان فتتحرك لها أعتى الجبال، وتبوح لها بأسرارها، الأعشاب الناعمة والأحجار الصلدة معاً.

ثم يأتي “البحر” الحاضر الدائم في أعراس المحبة والبهجة، وهو يأتي ولا ينتظر أن يسعى إليه، فيندلق كأسه في قلب العالم نافورة خمر، تسير في الأضلع وهجاً، ويجرى موجه حتى يمهد للمحبة دروباً من فيروز وتتصل أمواج المحبة بالروح، فيشكل الشاعر لدينا عالماً قريباً من عالم “الغفران” عند إبي العلاء المعري، والشاعر يؤكد هنا مرة أخرى اتصاله وتمثله وتشربه للتراث دون افتعال أو تقليد أو جمود.

أن الأنغام التي تحكم المقاطع المتتالية عبر اقتباسات دالة مثل “سمع الله لمن حمده” وتبت أيدي العذال وتب” تضع هذه المقاطع في ذاتها في مناخ روحي مشرب بالصوفية والخيال الخلاق في وقت واحد، والروح التي تتفتح في هذا المناخ بقدر ما يسكرها الشراب الذي تتجرعه، والنسيم الذي تتنفسه، وبهجة الألوان التي تكتمل بها العيون، بقدر ما تتفتح للعطاء لكل الكائنات، حتى أنها تقطر ظلاً يحمي الجرذان القارضة من وهج الشمس، ويصير أجنحة لزغب الطيور، وأرغفة وشربة ماء للرعاة الجوعى:

يفتحني روحك ريحانا نهرياً

يجزيني شماً وقراحا

يسفحني وجعاً وجراحا

في صحراء حنيني

أتقطر للجرذان ظلالا

لفروخ الطير جناحا

فإذا بكر راع بتباريح جواه

وأرسلها للشمس حداء قزحياً

صرت رغيفين مع الزاد وراحاً

 

إن كثيراً من لوحات القصيدة المجنحة تغري بالقراءة وإعادة القراءة ولا أريد أن أنوب عن القارئ في التمتع، ولكني أردت فقط أن أثير الشهية، وأشير إلى بعض مواطن الإمتاع.

إن الديوان في مجمله، يحمل هذه الروح التي تدل على موهبة شعرية أصيلة، وصقل عبر التدقيق والمراجعة، وقراء تراثية ومعاصرة، تخلع نفسها على الجسد الذي تصبح جزءاً منه، فيمتصها كما تتمثل المعدة الصحيحة الغذاء الجيد فيصير لحماً ودماً متجانساً.

واللغة لابد أن أشير من جوانب جمالها المتعددة إلى جانب صفائها وصحتها وحيويتها، ولابد أن أشير إلى طواعية استخدام المجاز فيها، طواعية تثير التساؤل حول إمكانية إفلات المجاز الجيد من دائرة التراث اللغوي، دون الخروج عليه لتصير اللغة تابعة للمجاز بدلاً من أن يصبح المجاز تابعاً للغة، كما هو الشأن في كثير من الإنتاج الشعري الذي قد يكون جيدا لكنة يظل في دائرة تبعية المجاز للغة دون أن يحاول اقتحام حدود المجاز المألوف إلى المجاز المبتكر الذي تصير اللغة تابعة له. وتدخله من ثم فى رصيدها الحاضر ويصبح جزءاً من تراثها المستقبلي.

أننى أشم رائحة هذه الظاهرة هنا، وأحييها، وادعوا إلى مزيد من التنافس الشعري والابداعى على طر يقها ، مدركا مدى صعوبة الحركة على هذا الخيط الرفيع.

[1] كتبت هذه الدراسة “مقدمة لديوان” أصدق شمس الشفاء” للشاعر عمر حاذق الصادر عن دار أرابيسك – القاهرة 2009

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*