ميلاد القصيدة من بنية المفارقة

ميلاد القصيدة من بنية المفارقة

ميلاد القصيدة من بنية المفارقة

قراءة في شعر حسن طلب

1 / 2

بقلم الدكتور/ أحمد درويش

 

صدر أخيراَ للشاعر الكبير الدكتور حسن طلب ديوان يحمل عنواناً “باب الصبابات … فصل الخطاب) عن دار المعارف بالقاهرة سنة 2015، عبر سلسلة تصدرها الدار بعنوان (زدني شعراً) وعنوان السلسة وعنوان الديوان معاً لافتان للنظر.

وحسن طلب يمتزج في شخصيته الشعر والفلسفة، إمتزاجاً كبيراً وربما يكون لطبيعة تكوينه الأكاديمي أثر في ذلك، فهو من كبار أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية، وله دراسات أكاديمية مشهورة في فروع الفلسفة المختلفة، وخاصة “علم الجمال”.

غير أن هذا الإحتمال ليس كافياً لتبرير هذا المذاق في شعره، وإن كان أحد روافده، فكثير من كبار الشعراء المتخصصين في مجالات معرفية متخصصة، لا ينخلع بالضروره تخصصهم على شعرهم كما كان الشأن مع أحمد زكي أبو شادي ، وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه، وغيرهم من كبار الشعراء العرب على إمتداد العصر الحاضر بما في ذلك، الشعراء المعاصرون، بثقافاتهم وتخصصاتهم المختلفة، لكن شخصية حسن طلب إضافة إلى ثقافته الفلسفية نزاعة إلى الشك والتساؤل والنبش والتفتيت والبعثرة وإعادة التوزيع، والألتفات إلى الخيوط الرفيعة قبل الإهتمام باللوحة الكبيرة المستقرة الثابتة والخروج من ثم بحصاد الإندهاش والإدهاش، الذي يقاوم بلادة الإستسلام للواقع مهما كانت قوة رسوخها وشيوعها، بل ومهما كانت درجة صدقها وجمالها، وذلك هو الذي يولد “الحالة الشعرية” إرسالاً وتلقياً، ويحول كل “جواب” في الأفق المحيط بنا إلى “سؤال” جديد، أو يحول كل “جيم” إلى “سين” كما حلا لي التعبير عن ذلك في لوحة شعرية، رصدت فيها قريباً مجمل إحساسي الشعوري، قارئاً ومستمعاً، بمجمل لوحات حسن طلب الشعرية التي يوالي رسمها منذ أكثر من خمسين عاماً.

وقد حدث ذلك منذ أشهر قليلة، عندما دعاني “بيت الشعر” في القاهرة الفاطمية، لحضور إحتفالية صغيرة يقيمها بمناسبة بلوغ الشاعر حسن طلب عامه السبعين، ودهشت للوهلة الأولى، فقد كمنت أحسبه “فتى” حيوياً في مرحلة تسبق هذا الرقم بما يوحي به من ملامح بداية الشيخوخه، وإن كان الجيل السابق عليه من أمثال عبد المعطي حجازي وفاروق شوشه، ومحمد أبو سنه عندما بلغوا هذه المرحلة قد أطلقوا عليها تفاؤلاً على عادة الشعراء “فحولة السبعين” وعلمت ان صاحبنا دخل إذن هذه المرحلة من “الفحولة” ومع أنني أنتمي إلى طائفة النقاد أكثر من إنتسابي إلى جماعة “الشعراء” وفحولتهم الدائمة، ومع أنني كنت قد واجهت شعر حسن طلب من قبل نقدياً مواجهة ليست بالمجاملة ، ولا بالهادئة، فقد حاصرتني أبيات شعرية في الفترة القصيرة التي فصلت بين دعوتي للمناسبة وحضورها، ورأيت بعد ميلادها والقائها، أنها تكاد تمثل جوهر فكرتي ناقداً، وقد أمتزجت بقدراتي المتواضعة “محباً للشعر” كإمتزاج الفلسفة والشعر عند حسن طلب.

وها هي المقطوعة التي أطرحها على من يهتم بمتابعة الحوار بين الشعر والفلسفة والنقد:

كـــل “جيم” أصبحت عندك “سيناً”  
  لــم تكــــــــــد تترك، شكاً أو يقيناً
غمرات الشك من قلب “المعري”  
  لمحة البرهان من عقل “ابن سينا”
هل مضت سبعون حقاً؟ أم مضت  
  جــــــــولات والفتى يغزو السنيـنا
يترنحـــــــن ومـــــا زال فــــــتى  
  رمحــــــه يطعنــــــها حيناً فحينــاً
صامــــــداً قد رازه الـــدهر فــلم  
  يــــر إلا أســـــــداً يحمي العرينــا
شعره كالشوك في عين العـــــدا  
  وهــــــو للإحباب يهدي الياسمينا
نمنات الـــــدهر في أحـــــــــرفه  
  صوغ نحاــت، يرى السر الدفينا
فيضيء الحـــــــــرف مزهواً بما  
  كــــشف الأزميل معنى ورنـــــينا
اســـــــــــــأل “الجيم” تنبئك بما  
  صنعت كفـــــــــــــاه حباً وحنينا
كل “جيم” أصبحت عندك “سينا”  
  لـــــــــــم تكد تترك شكاً أو يقينا

 

إن المناخ الذي ولدت فيه هذه المقطوعة الشعرية القصيرة لم يكن بعيداً عن الإنطباع النقدي، الذي عايشني وأنا أقرأ ديوانه الأخير “باب الصبابات.. فصل الخطاب” وهو ديوان مثير تظهر حتى في عنوانه، رائحة المفارقات عند المتلقي فالعنوان هو عتبة النص البارزة، وهو بإشتماله على كلمتي “باب” و”فصل” يحيل المتلقي إلى التقسيمات القديمية للكتاب التراثي إلى “أبواب” و “فصول” وبإشتماله على كلمة شائعة في لغة “النقد الحديث” “خطاب” يثير مفارقة بين القدامة والحداثة، لكن ما إن تعاود النظر في قراءة العنوان حتى تكتشف أن “فصل” القديمة بإشارتها التصنيفية  تغيرت حين أضيفت إلى كلمة “الخطاب” الحديثة بنزعتها التحليلية قد أحدثت تركيباً ثالثاً جديداً هو “فصل الخطاب” وهو تركيب إذا نظرنا إليه بعيداً عن مقابلة في الجزء الأول من العنوان، وهو “باب الصبابات” كشف لنا تعبير “فصل الخطاب” وحده عن معناه الأعمق المتداول في التراث وهو “القول الفصل” أو “فصل الخطاب” كما وردا في التعبيرات المقدسة.

وهكذا تطل المفارقة من عتبة النص، لكي تقودنا إلى ديوان ملىء بالصور المتنوعة للمفارقة الخلاقة عند حسن طلب كما سنرى في المقال القادم.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*