نظرة علماء الغرب إلى تراث الشرق وواقعه
الأصداء 2/3
بقلم الدكتور أحمد درويش
كان من الطبيعي أن تتعدد ردود الأفعال لدى المثقف الشرفي حول ما تكتبه الأقلام الغربية عن تراثه ولغته وعاداته وحاضره ومستقبله في فترات تاريخية متتالية تراكمت حتى أصبحت “متناً” كبيراً له ملامحه وبريقه ومخاطره وفوائدة وهو في معظم الحالات يكتسي ثوب “العلم المنهجي المحكم” يأخذ به أحياناً ظاهراً وباطناً ويختفي خلفه في كثير من الأحايين ليغطي أهدافاً أخرى سياسية أو دينية أو أقتصادية قد لا تخفي على كثير من الناس وقد يخفى على بعضهم وكانت درجات التلقي في معظمها تدور في أحد محاور ثلاثة.
أ. الإنبهار والقبول الكامل ب. التخوف والرفض الكامل جـ. التوسط
من خلال النقد والأنتقاد وربما كانت أدق العبارات في التعبير عن المحور الأخير تكمن في العنوان الذي أختاره رفاعه الطهطاوي عنواناً لرحلته إلى باريس وهي معقل من معاقل الإستشراق، حيث أطلق عليها: “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” ومعلوم أن الإبريز “هو المادة الخام التي يوجد فيها جانب من معدن الذهب النفيس مختلطاً بكثير من الشوائب والمعادن الرخيصة”.ولا تكتفي نفاسة أحد العناصر للحرص عليها كلها، ولا وجود شوائب للإنصراف عنها كلها وذلك شأن حضارة الغرب وكتبابات علمائه عن الشرق في رأي رفاعة .
ولقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين، فيما شهد من مراجعات علماء الشرق الكثيرة البارزة بكتابات المستشرقين، شهد مراجعتين بارزتين مختلفتين، تصفان معاني نقد الفكر الإستشراقي وإن كان ينطلق كل منهما من زاوية مختلفة، أحدهما من زاوية “الحداثة” والآخر من زاوية “القدامة” وهما مراجعة محمود شاكر ومراجعة ادوارد سعيد.
أما مراجعة محمود شاكر 1909 – 1997 فقد بدأت منذ ثلاثينات القرن الماضي، في دفعات متتابعة من معاركه الفكرية والأدبية وخاصة مع طه حسين في الثلاثينات ، ولويس عوض وغالي شكري في الستينات، وجمع مراجعته هذه في مقدمة كتابه عن المتنبي رداً على طه حسين التي اطلق عليها “في الطريق إلى ثقافتنا” حين طبعها مستقلة وفي مقالاته في الرد على لويس عوض التي جمعها تحت عنوان “أباطيل وأسمار” وقد أنطلقت مراجعة محمود شاكر أساساً من الحوار مع تلاميذ المستشرقين من العرب (طه ولويس) وأمتدت بالتبعية إلى إلقاء بعض الأحكام على أمثالهم من حملة الثقافة الغربية في الدراسات العربية والإسلامية وعلى المستشرقين أنفسهم، ولأن المعركة مع التلاميذ بدأت في الشباب المبكر لشاكر حين كان طالباً بالجامعة واصطدم بطه حسين الأستاذ بها إصطداماً ترك على أثره شاكر الجامعة دون أن يكمل دراسته ولم يعد إليها لأنها بدأت في هذا المناخ، فقد بدأت ساخنة وقوية وميالة إلى التعميم وأن كان في طياتها كثير من الدلالات على الفهم العميق لكنوز التراث ويكاد شاكر في حميا التعميم ينكر كل فضل للأستشراق والمستشرقين وصبيانهم وتلاميذهم، ولا يرى فيهم إلا رسلاً ممهدين للأستعمار ومتبنين له ومع ذلك فإن كتابات محمود شاكر تحمل كثيراً من المتعة والفائدة لمن يصطبر عليها من القراء.
أماممراجعة ادوارد سعيد (1935 -2003) فقد تلونت بظروف الحياة الثقافية والفكرية التي عاشها فقد ولد في القدس، وعاش فيها طفولته ثم إنتقل إلى مصر فتلقى فيها تعليمه الأولي وأكمل دراسته في أمريكا وحصل من أشهر جامعتها على درجات التخصص العلمي في الأدب الإنجليزي والمقارن وأصبح أستاذاً جامعياً شهيراً وناقداً مرموقاً صاحب مذهب في النقد الأدبي ينسب إليه وهو “نقد ما بعد الحداثة”.
ومن هذا المنطلق فقد جاءت مراجعته ادوارد سعيد لنظرية الأستشراق في إطار مراجعته المنهجية للفكر العربي مستنداً في هذه المراجعة على آراء أهم أعلام ذلك الفكر نفسه وفي مقدمتهم الفيلسوف الإيطالي جيوفاني فيكو الذي ألف في القرن الثامن عشر كتابه “العلم الجديد” الذي أثار غضب الكثير آنذاك، وكانت فكرته قائمة على تعرية الجمود الفكري، الذي يقع فيه كثير من الكتاب، حتى وهم يدعون التجديد ولكي يوضح فكرته قارن التطور الفكري بالتطور الفكري بالتطور البيولوجي من حيث وجود عنصرين في كل منهما هما عنصر “البنوة” وهو ضروري فكل كائن هو إمتداد للسابق عليه، وعنصر “الإتباع” وهو إختياري نابع من طريقة إختيار اللاحق لميراث السابق، وحين طبق ادوارد هذا المبدأ على كتابات المستشرقين رأى أن معظمهم يقع في فكرة التسليم بميراث الأجيال السابقة عليه في نظرتهم للشرق، وعدم التنبه لتطور المجتمعات البشرية وان ما كان يطلق على مجتمع ما منذ أكثر من عشرة قرون لا يظل صالحاً للأنطلاق على المجتمعات اللاحقة والمعاصرة.
ثم عاد إلى جوهر المقولات العامة أو الأيقونات التي استراح مجمل نتاج الإستشراق لأطلاقها على الشرق، مبيناً أنها مقولات صنعت في مجملها للغربيين “شرقاً خاصاً” بهم صدقوه وتتابعو على تنمية فكرته وهو شرق يختلف قليلاً أو كثيراً عن الشرق كما هو واقع أو كما يعرفه أبناؤه.
وبين أن السبب المنهجي الذي أدى لى هذا “الأنحراف” يكمن في نظرة “الذات” الدارسة إلى “الآخر” المدروس بإعتباره “موضوعاً ثابتاً” لا “ذاتاً” أخرى متحركة وأن هذه الحالة التي يعرفها جيداً علماء الفلسفة والنقد الأدبي تؤدي بالذات إلى أن نخلع على الآخر كثيراً من أنماط تعارض المزايا مع ذاته هو، لكي يكتسب هو الكمال النسبي ربما، دون أن يحس، كما كانت تقول سيمون دي بوفوار.
وكان ادوارد سعيد قد بدأ بتطبيق نظريته الفلسفية والنقدية تلك – قبل أن يكتب كتابه “الإستشراق” 1978 – خلال رسالته للدكتوراه التي أعدها عن الأديب الأميركي “كونراد” الذي كان روائياً وكاتب سيرة ذاتية، وقارن بين كتابته عن “ذاته” في سيرته الذاتية، وكتابته عن “غيره” في رواياته، وكيف يظهر مبدأ التعارض ومحاولة تغطية الأحلام عند الكتابة عن “الغير” حتى في إطار الكاتب الواحد ومن هذه الزاوية وقف إدوارد سعيد أمام مجمل كتابات المستشرقين، أعترف بجانب من الإيجابيات والجهود العلمية المخلصة فيها، ولكنه وقف أمام ما يراه مجاوزاً للواقع مطابقاً للصورة المتخيلة من خلال نقده المنهجي المعتمد على تجربة “جيوفاني” و”سيمون دي بوفوار” و”كونراد” .
وكان يرى ان فكرة “الأيقونة” أو “الصورة التمثيلية” التي يتم تعميمها وتصديقها دون تمحيص هي من أخطر ما خلق فكر الإستشراق على قرائه في الغرب وحتى على ابناء الشرق انفسهم أحياناً، ومنها فكرة مركزية الحضارة والتمدن الغربي، وفي صورة معينة وإعتبار ما عداها “تخلفاً عنها” ومنها حاجة بلاد العالم الثالث إلى “الإستعمار” لتحقيق التمدن واللحاق بالعالم الحديث، وهي أيقونه ظلت تطلق حتى بعد رحيل “الإستعمار” ورغبته في العودة في أشكال جديدة ومنها تخلف المرأة الشرقية وتصنيفها في عالم الحريم، ومنها أيقونة “الخيمة والسوق” التي تلخص تفكير بعض المجتمعات العربية وتلك أهم سلبيات “الإستشراق القديم” أما “الإستشراق الجديد” فله وجه آخر، وهو موضوع المقالة القادمة.