تمازج العذوبة والمرارة فى القصيدة الحديثة
3/3
بقلم الدكتور أحمد درويش
نتابع رصد الملامح الفنية في قصيدة الحان ونلاحظ أن الأبيات التي أوردناها من الدفقة الثانية في نهاية المقال السابق تتسم بملامح فنية خاصة تؤكد ما مهدت له المقاطع الأولى من القصيدة. فالقصيدة تراوح خلال بناءها للمقطع الثاني بين توظيف مفردة الشاعر بإعتبارها ضميراً ثالثاً أقرب ما يكون الى الصفات أحياناً وتوظيفها لها باعتبارها ضميراً أول حاضراً اقرب ما يكون إلى المتكلم، والقصيدة تستفيد من المزج بين الموقعين في خلق موقع ثالث غائم بينهما يضفي على خطواتها مزيداً من الشاعرية.
إن الدفقة الثالثة في القصيدة تبدأ كذلك بالكلمة المفتاح “شاعراً” بعد أن تلونت دلالاتها عبر المقطعين السابقين على النحو الذي أشرنا إليه من إمتزاج الغيبة والحضور والوصفية والعَلَمية لكن الشاعر هنا يولي وجهه ناحية الطريق المضاد بعد أن تساءل بالعين والقلب وأفتقد بالحس والمعنى وأصابه اليأس فتولى: وهو يستبدل بمصادر الإلهام العذبة المشعة مصادر أخرى قاحلة مجدبة ويستبدل بإشعاع الضوء الهادي طبقات الظلمة المحيرة وبروائح العافية العطره أصداء الجراح الصدئه:
شاعراً يأكل من لحم القضية
منشداً تحت عراجين الشجن
علمتني سطوة الظلمة أن ارحل
أن أختار في الليل مصيري
أن أضم الجرح..
وقاده ذلك إلى لحظات اللهو والرفاهية التي يغتال من خلالها عصافير الشعور وكأنه يرقص مذبوحاً من الألم:
أغزو ليل باريس وأختار عطوري
عملتني الحياة كيف أرتاد النجوم الخمس
وأغتال عصافير الشعور
إن مقطع التراجع الذي أعقب التساؤل واليأس قد نجح في توظيف الصور المقززة وفي مقدمتها صورة الذي يأكل من لحم قضيته وأصحابها وهي صورة تحيل إلى التشبيه القرآني الشهير “أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه”
وتحيل بعدها إلى المنشد تحت “عراجين الشجن” ولا يكون للشجن عراجينه إلا أذا كبر واستوى على سوقه، وتفرع وأصبح له الأغصان والعراجين، ولا يكون ذلك إلا في الهم التليد العتيق، وتجسد هذه الحزمة من التيه والتردي، صورة الذي يفقد الضوء والدليل ويختار في الظلمة الرحيل والمصير، ومع شيوع هذه الصورة وأمثالها في ديوان الشعر العربي فإن القصيدة أحسنت توظيفها في هذه المرحلة التعسفية من مراحل تجسيد الحالة الشعورية ولقد يضاف إلى ذلك أن هذه الحزمة من الصور ليست ببعيدة عن مناخ التشبيه القرآني من بعض الزوايا ولعل ذلك فضلاً عن دلالته على ثقافة الشاعر ومصادره يأتي بطريقة عفوية ليكون دفاعاً عن موجة الشك العاصف، التي سوف تجتاح القصيدة في مقطعها التالي والذي سيبدأ مع السطر الثلاثين، وبنفس المفتاح المعهود “شاعر”:
شاعر يتهم الله تعالى وسليمان وموسى
حاضنا سنبلة الوقت وفي الروح إنهيار
لابساً فروة شعر،، وبقايا كبرياء نخره
نحن جربناك يا الله.. والقلب خراب
تفرغ الروح من الضوء
ويكبو الشعر في الليل.
إن هذا المقطع الأخير على قسوته في درجات سلم التدهور للتماسك النفسي تدهوراً يصل إلى حد الزلزلة يحمل في لبنات بنائه الفني عناصر فنيه جيدة تجسد قسوة خواء الروح الشعريه الحقه، حين يستل منها اليقين وتنهش فيها الشكوك وهي من حيث المظهر الخارجي لا تزال هيكلاً شعرياَ حقيقياً وإنما يصبح كائناً هشاً “لابساً فروة شعر” ولا يصبح هذا الهيكل قائماً على كبرياء الشاعر الحقيقية التي يطاول بها أعلى الكائنات وإنما يصبح حشوه “بقايا كبرياء هشه ونور الشعر الحقيقي الذي يسعى به الشعراء الحقيقيون بين أيديهم وبأيمانهم انطلاقاً من قلوبهم العامرة يتحول عندما يكون القلب خراباً إلى أرواح خالية من الضوء يكبو في ظلمة ليلها الشعر.
إن هذا المشهد الحزين يقود إلى مشهد النهاية الذي تكاد تنعدم فيه كل مظاهر الحياة ولا يبقى إلا مشهد الموت، وليته الموت المهيب ولكنه الموت الذي تنبذ فيه القبور أشلاءها والذي يحمل الميت فيه وجهه الكئيب ويمشى به فلا يجد لحداً يضعه به. ويكون الشعر قد كبا في الليل وتكون الباصرة قد عميت. ولا تبصر الذاكرة إن هي أبصرت أفراداً يعملون أو أمما تبنى وإنما تبصر كتلاً متراصة.
أمما تتلو سواها
تبصر الدنيا متاها
××××
إن القصيدة في نهاية المطاف هي قصيدة التزام جسدت رؤيتها في الإحباط وفقدان الأمل في المجتمع العربي المحيط بها ونبهت لخطر اشتعال ثورة الأطفال والحجارة وشفت عن مرارة عظيمة المذاق، ولكنها أوصلت هذا الإحساس بوسائل الشعرية الفنية الهادئة أكثرمن اللجوء إلى وسائل الخطابية التي كان يمكن أن يكون لها تأثيرها الوقتي الأكثر حرارة ودفئاً. والأسرع تراجعاً أمام طيات الزمن على عكس الوسيلة الشعرية التي تم اللجوء إليها، والتي ضمنت للقصيدة مكاناً متميزاً في تقنيات العطاء الشعري للقصيدة الجيدة.
د. احمد درويش