هكذا يتكلم الشعراء الكوريون

هكذا يتكلم الشعراء الكوريون

هكذا يتكلم الشعراء الكوريون

1 / 2

بقلم الدكتور أحمد درويش

درج الوجدان العربي القديم، ومعه ذائقة التلقي المتصلة به، على إعتبار الشعر فناً قولياً، يحتل مكان الصدارة في الفنون القولية الأخرى، بل وفي الفنون بصفة عامة، ولا يكاد يظهر منها، بجانبه إلا ما كان في خدمته تمهيداً له أو شرحاً أو تعليقاً عليه.

وجعلوا مصادر الشعر ومنابعه، كما هو معروف، تعود إلى قوى غيبية خارقة، أطلقوا عليها صفات الشياطين حيناً والملهمين حيناً آخر، ولكنها في كل الحالات تعود إلى ما فوق قوة البشر العادية وتلتحق بقوى الإلهام والوحي، وذلك ما دفعهم عندما جاءتهم النبوة، أن ينسبوا ما سمعوه من كلام صادر عنها إلى هذه الدائرة، ويصفوا صاحبها بأنه “شاعر”.

وظلت مكانة الشعر عندهم ثابته حتى بعد نزول النص القرآني المقدس وإتجاه معظم الجهود إليه والتفاف المشاعر حوله، وما لبثوا أن وجدوا حلولاً لشبهة التعارض بوضع الشعر على رأس قائمة الكلام الجميل، ووضع القرآن وحده في قائمة الكلام المعجز، ووظفوا الشعر في خدمة لغة القرآن وتفسيره فتضاعف الإهتمام به.

ومع إنفتاح العرب على أداب الأمم الأخرى، الشرقية مثل الفارسية والهندية والسيريانية أو الغربية مثل اليونانية واللاتينيه، ومع ترجمتهم لكثير من روائع فكرها وتراثها، فإن أعينهم لم تكد ترى في شعر الأمم الأخرى، ما يمكن أن يتفوق على شعر العرب أو حتى يتساوى معه، وأعلن الجاحظ الذي أشار إلى بلاغة الأمم الأخرى وأدابهم عند حديثه عن فن “البديع” وهو الصق الفنون بالشعر، أعلن أن “البديع مقصور على لغة العرب، وبه فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان” وكأن عبارة الجاحظ هذه مثلت الذائقة العربية العامة تجاه النظرة إلى شعر الأمم الأخرى، وفسرت الصدود النسبي الذي ظهر في حركة الترجمة العربية تجاه شعر الأمم الأخرى وهو صدود لم يكد يشهد إنفراجة ملموسة إلا مع محاولات رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر في ترجمته عن الفرنسية لديوان “القيثارة المحطمه” للشاعر الفرنسي المصري الأصل، جوزيف جاكوب، أو يوسف يعقوب، ثم محاولات محمد عثمان جلال في ترجمته لحكايات لافونتين الشعرية تحت عنوان “العيون اليواقظ في الحكم والمواعظ” ثم أعقبتها التجربة الرائدة لسليمان البستاني في بدايات القرن العشرين عندما ترجم ملحمة الإلياذة لهوميروس شعراً عن الفرنسية والإنجليزية مستعيناً بالنص اليوناني نفسه، وترجمة خليل مطران لشعر وليام شكسبير المسرحي في نثر أدبي رفيع.

ومع إستمرار حركة ترجمة الشعر عبر القرن العشرين وخاصة عن اللغات الأوربية الشهيرة مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية وإمتداد ذلك إلى اللغات الشرقية الغربية كالفارسية والتركية وأحياناً الهندية، فإن الإهتمام لم يتوجه كثيراً إلى شعر لغات الشرق الأٌقصى، في الصين واليابان وكوريا، وغيرها من المناطق التي لم يتم التواصل بين آدابها والأدب العربي بقدر كاف.

وإذا كان الشعر يمثل وجهاً من الوجوه الحضارية للأمم لا يكاد ينفصل عن بقية الوجوه، وإذا كانت هذه الأمم قد قطعت شوطاً بعيداً في مجال ×× الحضاري، وأصبحنا في كثير من الأحيان السبق الحضاري وأصبحنا في كثير من الأحيان نعيش في حياتنا اليومية على كثير من نتاج خبرة أبنائها، وأياديهم الدقيقة الماهرة ومعارفهم الغزيرة وطاقة تحملهم المدهشة فيكف نتجاهل طريقتهم في التعبير عن المشاعر الإنسانية، التي نشترك فيها جميعاً معاً، كيف يعبرون عن الخوف والأمل والسعادة والشقاء؟ كيف ينظرون الى الطبيعة من حولهم في لحظات الرضا والغضب وأوقات الشقاء والجدب، إن ذلك كله لا يظهر إلا من خلال فن الشعر الذي نشترك فيه معهم ومع كل أبناء الجنس البشري.

كانت هذه التساؤلات جزءاً من الدوافع التي جعلتني منذ نحو عشر سنوات عام 2006 أقبل الإشراف على مشروع تقدمت به جمعية كوريا والشرق الأوسط والمعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري إلى مركز التدريب اللغوي بجامعة القاهرة الذي كنت أديره آنذاك، لترجمة نماذج من أدب كوريا الجنوبية شعراً ونثراً بمشاركة زميلي الدكتور يوسف عبد الفتاح الأستاذ بجامعة القاهرة والذي كان يعمل وقتها في الجامعة الكورية أستاذاً للغة العربية و آدابها.

وكانت الجامعة في سيول، وماتزال يوجد بها قسم كبيرٌ لدارسة اللغة العربية، يقبل عليه الكوريون إقبالاً طيباً ويستضيفون أساتذة ومراجع من العالم العربي ويحاول الدارسون في القسم سواء في مرحلة الليسانس أو الدراسات العليا التماهي مع اللغة التي يدرسونها، لدرجة أن كل دارس أو دارسة يختار إسماً عربياً له إلى جانب إسمه الكوري، وتتردد بينهم أسماء حسام وسيف وضياء ونورا وزينب ووليد وهيثم وفراس، وغيرها من الأسماء العربية يتنادون بها وقد يغلب عليهم الإسم العربي فلا يعرفون بغيره.

وبدأنا التجربة بالتعاون مع مجموعة من الأساتذة الكوريين المجيدين للعربية قراءة وفهماً على الأقل (وهي إجادة يطلق عليها إجادة الإٍستقبال) وقد ينقصهم بعض درجات إجادة الإرسال بالعربية كتابة ونطقاً، وهو أمر شائع في كل من يدرس لغة أجنبية وخاصة إذا بدأ في مرحلة متأخرة.

وكان على هؤلاء المتخصصين الكوريين أن يعدوا ترجمة أولى للنص حسب قدراتهم في الأداء الإيجابي وهي جيدة في مجملها. ثم نقرأ النص المقترح ونجلس معهم في حوار، وقد يقتضي العودة  منهم للأصل الكوري حيناً، أو إقتراح صور وبدائل أخرى من قبلنا والنظر في مدى قابلية الأصل الكوري لها، حتى تصل في النهاية إلى صورة نتفق عليها جميعاً.

في هذا الإطار جلسنا يوسف عبد الفتاح وأنا، مع المستعرب الكوري كيم جونج دو، ومعه مقترح بترجمة مختارات من الشعر الكوري الحديث لشعراء من أمثال الشاعر كيم سو وال وكيم بونج هو وجيوهان هو وباك موك وال وكيم تشون سو ومون داك سو وغيرهم من مشاهير شعراء كوريا الجنوبية، ممن سنقف أمام شواهد قصيرة من نتاجهم في المقال القادم.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*