وخير جليس في الزمان رواية جميلة

وخير جليس في الزمان رواية جميلة

وخير جليس في الزمان رواية جميلة

2 /2

بقلم الدكتور أحمد دوريش

إذا كان المتنبي يقول:

أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ, وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ.

فإن بهاء طاهر يفتح كتابه “في مديح الرواية” بتطويع هذه العبارات لذائقته الشخصية حين يقول “إذا كان المتنبي يقول إن خير جليس في الزمان كتاب، فإن خير جليس معي يتمثل في رواية جميلة” ويفصل بهاء طاهر مقولته المتعاطفة مع فن الرواية حين يقول: “لا متعة تفوق هذه المتعة، في العادة أبدا قراءة الرواية بنوع من البطء، أقرأ صفحات قليلة في أول يوم ثم أتركها، في اليوم التالي يتسلل سحر الرواية إلى نفسي فأقرأ أكثر، ثم بعد ذلك أكاد أصل النهار بالليل منغمساً تماماً في القراءة إن كانت الرواية طويلة الحجم. تصبح أحداث الرواية واشخاصها، عالمي الحقيقي ويمسى العالم الخارجي مجرد أشباح وتطفل مزعج على دنيا الرواية لا أبذل جهداً لكي أنساه لأنني أنساه بالفعل.

وإذا كان بهاء طاهر يعود في رصد انطباعاته تلك إلى أكثر من ستين عاماً قضاها في حب الرواية والإقبال عليها منذ صباه المبكر فإنه يثير أيضاً جانباً من عادات “التلقي” التى كانت تحيط بوسائل نشر الرواية في شكل حلقات مسلسلة في الصحف اليومية أو الإسبوعية قبل ان تجمع في كتاب، وهي عادة تمتد لدى القارىء العربي حتى أواخر القرن التاسع عشر وقد اشار إليها أحمد شوقي حين شرع في إنشاء فن “الرواية” التاريخية من خلال نشرها في حلقات في مجلة “الموسوعات” التي استقبلت رواية “عذراء الهند” أولى روايات أحمد شوقي النثرية سنة 1897، وكانت جوانب الإثارة في توزيع الروايات على حلقات تستهدف على نحو خاص جذب إهتمام “ربات البيوت” وقد دخلن إلى شريحة القراء في مصر في هذه الفترة كما اشار إلى ذلك أحمد شوقي.

وبهاء طاهر يشير إلى أنه في تلك الفترة كان يتابع بشغف نشر مسلسلات رواية “شهيرة” لسعد مكاوي في جريدة “المصري” وبعض روايات نجيب محفوظ في “الأهرام” وروايات يوسف إدريس في “الجمهورية” وكذلك روايات يحي حقي مثل “خليها على الله” أو رواية “السائرون نياماً” لسعد مكاوي وقد لازمته هذه العادة حتى فترات متأخرة. إذ كان يقرأ ما تنشره أحياناً صحيفة “أخبار الأدب” من روايات مسلسلة للجيل الجديد وتاريخ الرواية المعاصرة، يذكر أن هذه العادة في نشر الروايات مسلسلة أنقذت روايات شهيرة من الضياع أو عدم النشر أساساً، ولعل أشهر مثال على ذلك ما وقع لنجيب محفوظ نفسه، حين توقف عن كتابة الرواية فترة بعد ثورة سنة 1952 وذلك نتيجة لزوال حكم الباشاوات،الذي كان موضع نقده في روايات الأربعينات، ثم عكف على كتابة “رواية الأجيال” التي استعاد فيها ذكريات جيل ثورة سنة  1919 وظل يعمل في صمت حتى أنتهى من كتابه رواية طويلة تؤرخ أدبياً لثلاثة أجيال متعاقبة بعد الثورة، وأطلق عليها عنوان “بين القصرين” وعندما حملها إلى ناشره “عبد الحميد جودة السحار” صاحب مكتبة مصر، فزع من كبر حجمها وسأله قبل أن يقلب فيها: “إيه الداهية دي؟! “فقال رواية جديدة، فقال له: لا استطيع نشرها وهي حوالي 1500 صفحة، وعاد محفوظ في صمت ومعه نسخته الوحيدة، وبعد فترة سأله يوسف السباعي، وهو بصدد إنشاء مجلة جديدة هل لديك رواية ننشرها  على حلقات في المجلة لجذب القراء؟ فأحضرها له وعندما نشرت الحلقات الأولى، وجدت صدى كبيراً لدى القراء ، وهرول إليه “السحار” ناشره وقال له: ما هذه الرواية الجميلة؟ قال هي “الداهية” فجلس معه من جديد، وأقترح عليه أن تكون ثلاث روايات، “قصر الشوق، بين القصرين ، والسكرية” فأنقذت الثلاثية بفضل طريقة النشر المسلسل في المجلة بالطريقة التي أحبها بهاء طاهر في صباه.

وإذا كانت طريقة نشر الرواية مسلسلة تشبع غريزة الفضول والتسلية وتبلغ مداها في الرواية البوليسية التي تدفع القارىء للتفكير في حل اللغز ومعرفة “من القاتل” فإن هذا الجانب في ذاته “مشروع” ومن شأن أي رواية أو حتى أي عمل أدبي جيد، أن يكون مصدر تسلية ومتعة لقارئة، لأ أن يكون مصدر “إرهاق وإزعاج وكدّ للذهن مهما كانت جودة تقنياته وتصوره لعمق قضاياه لكنه ينبه إلى أن هذا وحده لا يكفي وهو عرضة للزوال بتحقيق الفضول، لكن الرواية الجيدة تقدم إلى جانب التسلية شئياً آخر أجمل وأهم حين تجذب القارىء إلى عالمها، وتجعله مشاركاً بالضرورة في تأمل القضايا التي تطرحها… وتعيش معك طويلاً بعد أن تنتهي من قراءتها  وقد تعود إلى قراءتها مرات ومرات… ذلك أن الرواية الحقيقية تفكك الواقع المألوف وتعيد تركيبه، فتراه بنظرة أعمق وبفهم أفضل وهي تغوص في أعماق النفس الإنسانية على نحو يتجاوز ما يمكن ان يكتشفه علم النفس..

وتطرح أسئلة جادة عن ماهية الحياة والوجود على نحو يستثير القارىء على الأقل ليفكر في تلك الأسئلة ويضيف بهاء طاهر. “الروايات الحقيقية بإختصار هي مرايا سحرية يرى فيها القارىء جوانب مجهولة من عالمه ومن مجتمعه ومن نفسه.

غير أن هذه الأسئلة المثارة التي تثرى الوجدان الثقافي لا تثيرها الروايات بالطريقة المباشرة بل بطريقتها الفنية الخاصة وعبر رؤية الفنان المبدع.

ويشير بهاء طاهر في هذا الصدد إلى حكاية رواية “الطريق الملكي” لأندريه مالرو الذي كان متعاطفاً وقت كتابتها مع الإتجاه الماركسي وعندما أخذ عليه بعض الساسة أن الرواية لا تتطابق مع ما تدعو إليه “الماركسيه” أجابهم بقوله “إن رؤيتي للحياة روائية ” كما أشار إلى رواية الكاتب الروسي سولنجتين “يوم في حياة إيفان” التي رصدت قسوة النظام المستبد من خلال رصد محايد لحياة سجين في “سيبيريا” على مدى يوم واحد دون أن تطلق أية إدانة سياسية مباشرة، ومع ذلك فقد هزت أركان الدولة وقتها.

إن الرواية العربية شاركت في تكوين الوعي الثقافي لجيل بهاء طاهر من خلال ما كان يوزع على تلاميذ المدارس في إطار “القراءة الحرة” من روائع الروايات، وبما كان تثيره أجهزة الإعلام من التركيز على قيمة الأدب والثقافة وهو يرى أن ذلك الإهتمام قد إنزوى وتراجع في الإعلام الى الصفحات والبرامج المتخصصة وهي غير جذابة، وتم التركيز في تشكيل الوعي على كرة القدم وأخواتها، فتراجعت كثير من القيم من مستوى الرأس إلى مستوى القدم وتراجعت القيم الثقافية والأدبية من عامة المثقفين وجماهير الأمة، إلى بعض المتخصصين إن كانت ما تزال باقية.

إن تجربة بهاء طاهر في “مديح الرواية” من شأنها أن تثير شاعراً كبيراً ليكتب في “مديح الشعر” وقصاصاً متمكناً ليكتب “في مديح القصة” وكاتب مقال متميزاً ليكتب “في مديح المقال” لعل ذلك يساعد في دفع الأجيال الجديدة إلى “محبة الثقافة”.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*