وراء الأسوار – رؤية الآخر
والبنيه الأدبية للمشاعر الجريحة
2/2
بقلم الدكتور / أحمد درويش
كتاب ” وجبه المساء – يوميات دبلوماسى فرنسى فى سجن مصري” الذى ترجمته مؤخرا الى العربية ، الدكتورة رشا صالح عن نص المستشرق الفرنسى البارز أندريه ميكيل ، كتاب اجتمعت له كثير من الخصائص لتجعل منه كتابا ممتعا ومفيداً ابتداء من البنيه الثقافيه للمؤلف ولغته الأدبية الفرنسية الدقيقة المكثفه ومرارة وغرابه التجربه التى تعرض لها ورصد ملامحها الادبية فى هذا الكتاب فضلا عن دقة وسمو لغه ترجمة النص الى العربية والتى حاولت ان تجعل النص العربى للتجربة ابداعا موازيا ، للنص الفرنسى حولها ، وكل ذلك ضمن للكتاب ما يمكن ان يطلق عليه ” البنيه الأدبية الراقية للمشاعر الجريحة ” .
تقول الدكتورة رشا صالح فى مقدمتها الهامة للترجمة .. إن رصد وقائع هذه الايام المريرة والليالى الطويلة قد أتيح له قلم مبدع وعالم وإنسان على درجة عاليه من ثراء التكوين وتعقد العناصر .
فهو فى لحظة مرورة بهذه الاحداث شاب فى الثانية والثلاثين من عمره يجمع بين صفات المبدع فى الادب الفرنسى ، بوصفة كاتبا وقاصا وشاعرا ومثقفا نهماً عارفا باللغات التى تشكل لديه نوافذ على الحضارات الانسانية مثل الألمانية والإنجليزية والأسبانية والروسية وامتدادتها فى اللغات القديمة وأخيراً العربية الفصحى التى عشقها وقرر ان يرصد مشواره العلمى ، الذى كان قد بدأه فى ارقى المؤسسات الأكاديمية فى فرنسا، فى استجلاء مظاهرها الإنسانية والأدبية وتقديم صورة مشرفه عنها لأبناء حضارته ولغاتها ”
وخلال صلته الثقافية بالعربية سابقا ولاحقا أهتم اندريه ميكيل بظاهرة ” الجغرافيا الإنسانية عند العرب ” واعد حولها رساله مرجعيه وترجم نصوصا للمقدسى وابى الفدا والمسعودى وغيرهم ، كما اهتم بالأدب القصصي العربى القديم وتأثيره على الأداب الأوروبية مركزا على ابن المقفع ولافونتين وبالقصص العربى الحديث مركزا على نجيب محفوظ الذى كان اول من رشحة لجائزة نوبل رغم مروره بالأحداث المريره التى يضمها الكتاب ، كما أهتم بالف ليله وليله . وقاد حولها حلقات دراسيه مشهورة فى الكوليج دي فرانس ، وفى مجال الشعر كان صديقا لمجنون ليلى وحاكاه بالفرنسية وصديقا لبدرشاكر السياب ونقله إلى لغته وكان ومايزال صديقا للإنسان العربى وتراثه الثقافى وبيئته الحاضنة يقول فى كتابه الذى بين ايدينا عن وصفة للقاهرة وثقلها الثقافى فى محيطها :” القاهرة كما يقول هنرى الرابع عن باريس” ليست مدينه ولكنها مدائن ، والنهر حولها قبل إختفائه فى الدلتا يحمل فى فورته واهتمامه ، حوار الجفاف والماء ، حوار الصحراء والطين وهو الحوار الذى تشكلت منه مصر.. ومع لمسات التحديث المتتاليه للقاهرة ـ لم يتبق من المدينة القديمة سوى القدر الذى فرض نفسه وبقى ممثلا فى القلعه والمساجد والأزهر ونحن حين نرى كل ذلك ، نتفهم التيه الذى وقع رجال السياسة الفرنسية فى شركة فهم لم يفهموا أبدا هذا الأمر ببساطة . بمعنى ان اشراقة هذه المدينه فضلا عن كونها أكبر مدينه فى افريقيا وتأثير خبرات هذا البلد تجاه شعوب أخرى ليس الا إشعاعاً طبيعيا وسيكون من غير المجدى الحديث عن مؤامرات ودسائس.
أن صفحات الكتاب مليئه بمواقف تصلح منطلقا للحوار بين طرائق الحجاج والأقناع عند شرائح من المجتمعات الشرقية وشرائح من المجتمعات الغربية ، ولسوء الحظ فإن الشرائح الشرقيه هنا ، ينتمى معظمها الى رجال الأمن والتحقيق الذين يمارسون أكبر قدر من الوسائل العنيفه التى يميلون اليها ، لتحقيق النتائج التى يفترضونها والشرائح الغربية تنتمى الى اصحاب الثقافة التى تميل الى المحاجة والأقناع المنطقى ، وصولا الى الإدانه التى تستند الى أدلة ، أو البراءة التى تستوجب الإعتذار ، ووجود عدم التوازن بين هاتين الشريحتين هو الذى تنتج عنه بعض صفحات المرارة التى تسجلها هذه التجربة فى اسلوب ادبى رفيع لكن صفحات كثيرة أخرى تسجل مشاعر إنسانية رفيعه يبديها أندريه ميكيل تجاه رفاقه المسجونين الذين كان بعضهم ينتمى إلى شرائح المثقفين اليساريين ممن يتحاور معهم فى ردهات السجن ، وبعضهم الأخر ينتمى الى طائفه المحكوم عليهم بالأعدام الذين رصد ميكيل لحظاتهم الأخيرة فى الحياة ومشاعره تجاههم من خلال ثقب زنزانته الضيقة وترك لنا من خلال وصفه صفحات إنسانيه رائعه تكتفى بالإطلاله على واحدة منها من خلال لغة الترجمة الدقيقة المحكمة :
جاء فى صفحة 177 فى النص المترجم تحت عنوان ” يوم من الايام”
هو يوم من بين ايام اخرى لمن سيبقى على قيد الحياة ولكن بالنسبه لمن سينفذ فيهم حكم الأعدام هذا الصباح فهو ” يوم الأيام” وبما أنهم قد أعلنوا مساء أمس قبل أغلاق الزنازين عن تنفيذ حكم الأعدام فى ثلاثه مساجين فقد طلبت من الحراس بأن يحملوا بعض الكعك والسجائر لهؤلاء الثلاثه سيىء الحظ ، تعانقنا وكنت اعرفهم جيدا لأننى كنت قد التقيت بهم مرات عديدة ، اثناء نزهه الصباح وقد مزق قلبى كثيرا رؤية أصغرهم سنا ، وهو الذى كان متمتعا بالمرح والحيوية أثناء نزهاته فى الفناء ، ارتسمت الابتسامة على وجوه الثلاثه وصافحونى وقد نجحت فى ان أفهم من عاميتهم المصرية التى التقطها بصعوبه ان مصيرهم الآن لم يعد مهما ، وانه يجب على ان افكر فى نفسى دون ان افرط فى جوهر قضيتى ودون ان ايأس عانقتهم للمرة الأخيرة وقد تجمدت الكلمات فى حلقى وعدت الى زنزانتى.
استيقظت صباحا حينما لاح ضوء النهار وعندما بلغ الصمت ذروته فيما بعد أخذت اصلى من اجلهم وغمرنى التفكير فى امرهم والصقت عينى بثقب الباب الضيق لزنزانتى .. ران الصمت واخيرا دوى فلاش الكاميرات والعبارات المألوفة بين شكر للحراس ، وطلب للمسامحة … ركعت على ركبتى فى وسط الغرفه وإنخرطت فى نشيج متصل .. يا الهى فى هذه اللحظة ذاتها يرتدون الاقنعه على وجوههم وتسقط الأقدام فى البئر رحماك يا الهى .. لقد ماتوا بالفعل فى هذه اللحظة … دقت فقرات العنق … عندما تجىء ساعه موت البشر تحمل صلوات المحتضرين أملا فى الحياة ولو قليلا… وانا مازالت حيا بعد لحظة موتهم مما يجعلني أخجل من نفسي لأنني على قيد هذه الحياه، ومع ذلك فإنه بعد هذا التمزق ، ماتزال هناك رغبه فى الهدوء وفى المتعه وفى الإرادة الصارخة فى الحياة ـ وفى ان يكون المرء سعيدا وفى ان يقاوم العقبات والصراع ”
إنها صفحة من صفحات الأدب الإنسانى الراقى يصوغها المثقف الفرنسى أندريه ميكيل ، داخل سجن مصرى ، فى لحظة تنفيذ الاعدام على رفاقه فى الإنسانية ، أيا كانت جنسياتهم ولغاتهم وعقائدهم وتنقلها الدكتورة رشا صالح فى ترجمتها للكتاب الهام ” وجبة المساء ” ، يوميات دبلوماسى فرنسى فى سجن مصرى .
د. أحمد درويش